في نفس الوقت الذي ذهبت فيه التجربة التسعينية إلى المغايرة الشكلية التي ارتادها كتاب قصيدة النثر –خاصة- وأصحاب التجارب الفردية القوية في التفعيلة والعمود.. فإن أغلب التوجهات المشاركة في صنع هذا المشهد قدمت إصراراً أكثر على المغايرة.. المغايرة التي يمكن أن نعدها لهجات.. ليس بالمعنى المشاع للفظ لهجة.. وإنما بمعنى كونها لهجات لغوية وأسلوبية ومعجمية.. كان ثمة بحث دؤوب عن لغة خاصة.. ومرجعية خاصة واصطفاءات معجمية.. تدخل جديداً إلى السياق.. إلى الموجود... أو تمنح قيماً جديدة للألفاظ المستعملة.
في تجربة التسعينيين اليمنيين بدأت أوراق الأيديولوجيات الفكرية والدينية والسياسية بالتساقط.. الذين كانت لهم أيدلوجيات يسارية.. تتمظهر في إبداعاتهم تخلوا عنها رويداً رويداً منذ بداية التسعينيات... ولأن معظم هؤلاء كانوا عند بداية التسعينيات في أول نضجهم... فقد كان سهلاً عليهم التخلي عن الأيديولوجيا.... وإن بقيت بعض مفرداتها تظهر في منتجهم إلا أن ظهورها لم يكن بذلك الشكل الذي كانت تظهر به عندما كانوا ملتزمين... صارت المفردات المنتسبة إلى تلك الأيديولوجيا توظف للتهكم على الأوضاع التي جدّت.... أو على الخيبات التي صدمتهم إثر تهاوي الأيديولوجيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
ولعل قصيدة (الأيام الصعبة) للشاعر علي المقري هي الأكثر تعبيراً عن التحول البالغ الذي شهده عدد كبير من أولئك المبدعين، كما أنها تَقْرَأُ بشكل جيد التغيرات التي أدت إلى ذلك التحول:
ظننا الحياة سهلة،
إذ رافقنا كارل ماركس لسنوات طويلة
كان يشدنا، منذ طلوع الفجر حتى
هبوط النوم،
إلى ثورات وانتفاضات ومظاهرات
تزيح الستار عن بهجة الحياة
إلى أبد الأبد
كانت أياماً سهلة،
أن نصحو مع (مارسيل خليفة) نغني:
(منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي)
أو ننهض من شمس (فيروز):
"طلعت يا محلى نورها
شمس الشموسه"
كانت أياما فقيرة وسهلة،
فبالرغم أننا لم نكن نؤمن بوجود رب
كريم أو بخيل
كان يكفينا لنغالط الفقر أن نغني (لسيد دوريش):
"يا للي معاك المال
برضه الفقير له رب كريم"
كانت أياماً سهلة
حتى عندما تراكمت الخيبات
وصرنا كثيراً ما نمسك الرفيق كارل
ماركس بذقنه الكث،
ونعاتبه مثل أي شيخ مسلم: (الله
المستعان)
بعدها أيضاً،
كانت أياماً سهلة،
ونحن ننتقل إلى السكن مع جان بول سارتر
مجاورين سيمون وكامو
حيث لم نعد نقول، أبداً، صباح الخير..
كانت أياماً متشحة بالسواد وسهلة،
انتزع فيها ميلان كونديرا منا الضحك
والتباهي بالنسيان
كان الندم يشدنا من أول الصبح
حتى آخر النوم
ذبحنا سنوات العمر على عتبة الندم
ولم يتبق لنا أي شيء لنتباهى به
أو
نندم عليه،
صرنا بلا تباه،
وبلا ندم
بلا أي شيء
كما صارت الأيام صعبة
(الأيام الصعبة ص 17-21)
ما عبر عنه النص سيؤكده علي المقري أكثر فأكثر في أحد حواراته (لا أدري حقيقة ماذا تعني الكتابة التي تسمى ((شعراً)). أحياناً يفيض الكلام فألجأ إلى الصمت. يفيض الصمت فألجأ إلى صخب الجنس. يفيض الخمار فألجأ إلى الخمر. أحياناً تفيض الأفلام والأخبار والكتب والصحف والفراغ. يفيض كل شيء فأشعر بالملل. يفيض الملل فألجأ إلى الكتابة. ليست لديّ قضية، لا وطنية، ولا قومية، ولا أممية. حين لا أجد شيئاً أعمله سوى ممارسة الملل أمسك القلم وأبدأ بوضع أشكال وخطوط على الورقة لتتحول أحياناً إلى كلمات.
أحياناً يصيبني الأرق ولا أرغب حتى في إشعال الضوء فأتحسس أية قصاصة وأي قلم لأكتب أي شيء في الظلام ، حتى يغلبني النوم.
أكتب عادة أي شيء وبحرية مطلقة. بدون رقيب داخلي أو خارجي. لا أهتم بالنشر ولا أعمل حساباً للقارئ. ليست لدى قضية؛ لهذا أكتب شفاء من الملل، وربما توحداً معه. لا أرغب عادة بنشر ما أكتب، إلاًّ إذا وجدت أن هناك فائدة ما، شخصية على الأرجح)( ).
أما أصحاب الأيديولوجيا الدينية المرتبطين بأحزاب أو تيارات الإسلام السياسي.. فقد كان صوتهم محدوداً وخافتاً.. وضيّق النطاق في المشهد الثقافي الأدبي... وإن كان واسع النطاق شعبياً.. ولأن هؤلاء غالباً من ناحية الشكل والتقنيات.. يشتغلون على إعادة إنتاج الجاهز... وداخل العمود أكثر... إضافة إلى أنهم يشتغلون على المعنى المباشر.. الذي يتقصد إيصال رسالة ما... موازاة مع نظرة إلى المشهد الثقافي الأدبي في تجلياته الجديدة.. تتميز بالازدراء.. والمجافاة... بل والتحقير، فإن أصوات هؤلاء لم تقدم جديداً.. ولم تشكل علامة مميزة سوى محافظتها بقوة على بقاء شكل من أشكال الإبداع التقليدي.. الشكل المناشيري –المباشر- حاضراً على هامش المتن التسعيني المتعدد..
المتن التسعيني المتعدد.. لم يكد يتجاوز منتصف التسعينيات حتى أصبح يتميز بعدد من العلامات الفارقة.. فقد شهد حالة من الانفجار الكبير للأصوات.. وشهد –خاصة مع نهاية العقد التسعيني- وفرة في الأصوات بشكل غير مسبوق..شهد أيضاً وفرة في الأصوات النسائية لم تحدث من قبل في تاريخ اليمن..إضافة إلى ذلك صار واضحاً.. نزوع المبدعين إلى التمايز.. وأصبحت المرجعيات والخلفيات تتعلق بطبيعة شخصية الشاعر ومرجعياته الثقافية الخاصة، وبدأت التمايزات تتمظهر في شكل تجارب متفردة.. يغرد صاحب كل منها في فضاء لوحده.. أو تتمظهر في شكل استقطابات.. وشلل تتأسس.. إما على تقارب روحي وثقافي... إلى حد ما.. أو شللية تتغذى بموجهات وظيفية أو مقايلية (نسبة إلى التقاء مجموعة من الشعراء بشكل دائم في مقيل قات) وإما على دوران مجموعة من التجارب حول مبدع متميز... إما بريادته في مجال اختياراتهم وقدرته على التنظير لها... وإما بكارزميته الشخصية وقدرته على الاستقطاب، وإما لقوة تجربته الإبداعية وتميزها، وهيمنتها على التجارب المحيطة بها والدائرة في فلكها.
وهذا ما جعل المشهد التسعيني يخضع لتناقضات وصراعات داخلية مريرة... فاحت منها -أحياناً- روائح التهميش والإلغاء والإقصاء.. التي عدد الشاعر والناقد محمد المنصور مظاهر لها تمثلت في: (استخدام التقديم للمجموعات الشعرية والنصوص من أسماء شعرية مرموقة، وافتعال الكتابة عن هذا العمل أو ذاك في إطار الشلة أو الجماعة أو الأيديولوجيا، والتبشير بهذا العمل أو ذاك، أو التجاهل من منطلق الأيديولوجيا، أو المصلحة أو الشهرة، والتمييز بين الإصدارات الجديدة في الصفحات المتخصصة في الصحف والمجلات بين هذا العمل أو ذاك على الصعيد الخبري التعريفي للقارئ طولاً وقصراً بصورة للكتاب أو بدون، ومكان النشر والحيز الذي شغله، وغير ذلك على صعيد الحفاوة بالعمل في مختلف الأوساط، ونسبة التوزيع والشراء، وهلم جراً، بغض النظر عن القيمة الفنية غالباً للعمل، وإنما بمراعاة أمور أخرى تبتعد بهذه الممارسات عن الوعي النقدي السليم والمساعد على الإبداع والانحياز للقيمة الجمالية الفنية ثم بقية العناصر الأخرى) ( ).
ولكن كل تلك المظاهر كانت في كل الأحوال دليلاً على ضخامة وتعدد الصوت التسعيني، وعلى أن اشتغال التسعينيين كان واسعاً لدرجة أن نالت فيه الهوامش من المركز أكثر مما فعلت في أي وقت مضى.