النص(جيل جديد )...
كنا أربعة تحت ضوء الشمس المشرئب من خلف سحابة شفافة، حلقة دائرية صنعناها بوضعية جلوسنا، تتوسطنا نار تأكل بقايا سقف دمرته الحرب.
همس أحدهم: طالت الحرب.
ثاني يهمس لم أعد أتذكر وجه مدينتي الجميل.
ثالثنا يصرخ من جانبي: أي صديق أحيي ذكرى استشهاده غدا..؟
لم أعرهم أي اهتمام، فما سمعته منهم كان سخيفا مقابل ما أشاهده أمامي..!
"أطفالنا الصغار يلعبون بجمجمة آدمية"
********
عهدنا بالكاتب القاص : مروان الشريفي اقتناصهُ لقضايا إنسانية بحتة ذات صلة بأوجاع موطنهُ المغدور.
هذا الكاتب الذي تجرّع آلام الغربة بمجرد استئنافه للدراسة الجامعية في أرض الوطن ؛ ففضّل الاغتراب الروحي ، والجسدي على أن يحظى بتعليمهُ الجامعي في وطنه برفقة أقرانه ، وقد فضّل أن يسلك سبيل طلب العيش على أن يجاهد بعمره في أرضٍ يتفجّر كل يومٍ فيها ألف بركانٍ للصراع .
الشريفي الذي تجرع آلام الغربة يأبى إلا أن تتجرعَ أقلامه النازفة دماء أبناء شعبهُ الذين أنهكتهم سياط الحروب ، وأثقلت كاهلهم جبال الصراعات المتناسلة . في هذا النص - ولاعجب - وظف الشريفي تقنية السرد ، والوصف ، والإيجاز ، والإختزال ، والمفارقة بحرفيّة قلّ أن تجد لها نظيرا .
استهلالًا بتوفقه في اختيار عنوان النص "جيل جديد" يحمل أبعادا استراتيجية ، واستشرافية عميقة حيث يرمز إلى التضاد الكائن بين الحاضر ، والمستقبل ، فنتكشف عن عقلية طامحة الفكر ، وجامحة الرؤى .
غوصًا في غمار النص نجد أن الكاتب وظف العددية بوعي حيث أشار العدد أربعة إلى جهات الوطن المكلوم الأربع ، وهي أحاطت بمركز الدائرة الذي شكلتها شخوص القصة الأربع. نجد أن المكان "تحت ضوء الشمس المشرئب" وهي إشارة إلى مدى رفعة الحرية في سماء الشخصيات ، ومداعبتها لهم عن بعد بواسطة ضوئها ، رائحتها ، وأيضًا دفئها .
بينما نجد أن الزمن سابحا في أجواء القصة وهي حركة مقصودة حيث أن الأجواء الحربية لاتبدأ ولا تنتهي بزمنٍ دقيق ، وهي قابلة للتلاعب بعنصر الزمان حسب الوضع الكائن ، وأمزجة الكبار .
أما السحابة الشفافة التي تحجب حلم النهار فهي رمز لمشاعر السخط الكائن في النفوس المتعطشة للسلام ؛ فوصفها بالشفافة دلالة على خواء السحابة من الغيث المحمّل في أجزائها على العكس من السحب المعتمة السوداء .
ومن الغريب أن تصنع الجماعة نارًا في جوف النهار لاسيما " تحت ضوء الشمس " فمن المعتاد أن النار تُضرم في عزّ الليل ، ووحشة التيه ؛ وذلك لاستقاء الدفء اللازم ، والإنارة المنشودة ، وهنا نلتمس التناقض الصارخ في القصة حيث تعمد الكاتب الإشارة إلى مدى حاجة الشعب الروحية إلى الدفء المستقى من مشاعر الوفاق ، والوئام بين أفراد المجتمع ، وإلى تطلعهم إلى أضواء الحرية المنبثقة من النار التي لاتقترب منها الحيوانات المفترسة في جوف العتمة السحيقة .
وبالفعل ! .. فقد سادت شريعة الغاب في أوطاننا ، وصرنا نهفو - رغم شعارات الحرية الجوفاء - إلى بصيص أملٍ لحريّة نصنعها بأيدينا وضعًا ملموسا ، لاشعارًا يُردّد . حريّة تشقّ أمامنا حجب الظلام الحالك الذي نغرق فيه ، ويخنقنا . هذا من ناحية .
ومن ناحيةٍ أخرى وظف الكاتب العنصر الهندسي بذكاءٍ له دلالته بقوله :" كنا أربعة ، حلقة دائرية صنعناها ، تتوسطنا نار " فالأشعة المنبثقة من مركز الدائرة تتوزّعُ بانتظامٍ ، وبشكلٍ دائريٍّ نحو محيط الدائرة .
وبما أن الشخوص بعدد الجهات المحيطة هذا يعني أن نار الحرب تطال الجميع طال الزمن أو قصر ، هذا في حال اعتبرنا النار رمزًا للحرب .
وإن اعتبرناها رمزًا للثورة - أيضًا - ستكلل أرواح العامة وهو الأصح دلل على اعتبار النار رمزا للحرية قول الكاتب عنها :" تأكل بقايا سقفٍ دمرتهُ الحرب ".
وفي غمرة همسات الأصدقاء ، وشكاويهم يشد الكاتب مشهدٌ مريعٌ كان منبع فكرة النص ، وبيت قصيده وهو أن الجماجم حلّت محل ألعاب الصغار ؛ كإشارة لإسهام الحرب بقوة في تبلد الشعور ، وتجمّد الإحساس ، ونضج الفكر الطفولي في آن. هذه القفلة الصادمة استحقت ألف علامة للتعجب ، مع أن الكاتب رفض وضعها لأنها ماعادت غريبة على من عايش تلك الأجواء .
القفلة مدهشة ، أطلقها الكاتب بفمٍ مكتومٍ عنوة إلى كافة أطراف الصراع علّهم يستشعرون مدى قبح جرائمهم اللاتي رسمت مخالبها معالمها بقوة على أفكار الأجيال القادمة .