الصورة الشعرية عنصر رئيس ومحوري في النص الشعري، ولا نستطيع أن نتصور نصا شعريا مجردا من الصورة؛ فقد يستغني النص الشعري عن الموسيقى أو الإيقاع، ويظل نصا شعريا يفي بإنجاز عملية الاتصال بين المرسل والمرسل إليه ؛بينما ستضطرب عملية التواصل تلك، إذا خلا النص الشعري من الصورة.
ما بين يدينا ديوان شعري يتفيأ خطابا شعريا قائما في الأغلب على الصورة، ولعل الناص يدرك تماما أن الشعر ،أو روح الشعر تتمخض عن الصورة ،وعن رسم الإحساس المستبقي أو لنقل التقاطه في حالة من تلبس الناص للحالة الشعرية.
ومن ثم فالشعرية أو النصية تتمخض عن حالة التصور التي تتغشى الناص ،حين يغدو بين يدي القصيدة.
يمتاز ديوان "عالقة خلف جفون الوطن" لعائشة المحرابي بتكثيف الصورة والاتكاء عليها كعنصر محوري يتأسس عليه بنيان الكتاب عامة؛ فإذا ما توقفنا على البوابة الرئيسة (العنوان): (عالقة خلف جفون الوطن)_ سنجد أنفسنا على عتبة مشهد، أو صورة إطارية تتمثل في إمرأة علقت في اللا فضاء ،أي خارج المكان، وكأن المكان وفي حالة غير مستقرة أغلق منافذه أمام الذات التي تجاوزت الفضاء في مغامرة كانت تظن الذات أنها مأمونة، ولم تتوقع البتة أن يغلق الفضاء منافذه ،فتظل عالقة خارج أسواره ،بينما يظل الفضاء مغلقا لمدة قد يتقوض معها أمل الذات العالقة بالعودة إليه.
يمثل هذا المشهد (البوابة)الإطار الرئيس، وإذا ما توغلنا نحو الداخل سنجد أن بنية الخطاب عامة تتكئ على دعامات ممتدة ومتراصة من الصور ،تتعتبها (قبل الولوج إلى النص )صورة إطارية جزئية مكثفة الملامح والألوان، تتجسد في الومضة الممهدة للنص؛ فقبل ولوجنا إلى النص الأول (انتظار) ص14 تستقبلنا ومضة (دعامة صغرى) مكثفة الصورة نحو:
" لا تحدث الغيم عن آلامنا ،حتى لا تنمو في حقولنا سنابل الوجع "ص12،ثم:"كم أنت غزير العطايا أيها الوجع؟ "ص13،ثم يبتدأ الكتاب (الديوان ) بالقصيدة الأولى (انتظار).. ومن ثم فالبوابة الرئيسة (العنوان ) بتركيبها المجازي المكثف (عالقة خلف جفون الوطن) تضعنا أمام مشهد مفعم بالدرامية التي تمخضت عن تكثف الصورة ،وبإمكاننا ،إذا ما رغبنا محاكاة العنوان _أن نرسم لوحة تحتوي تلك المدخلات، سواء عن طريق التخييل أو الرسم المباشر بريشة الرسام.
ومن ثم فإن تكثيف الصورة يتمدد في النصوص من العتبة (الومضة) ثم النص ،ثم العتبة الومضة الثانية ،ثم النص الثاني ...إلخ، حتى تسدل الومضة الأخيرة (أعانق الأمل المخنوق على قارعة الرجاء، فيرفض الشوق قبلة الحياة) وما يليها من نص(مخالب الليل)_ الستار عن تلك المشاهد.
وخلاصة القول.. فإن الخطاب الشعري المضمن ديوان (عالقة خلف جفون الوطن ) يقام على تكثيف الصورة عبر قسمة بنيوية تمتد من الإطار الرئيس (المشهد / اللقطة الإطارية الأم )التي تتجسد في العنوان (عالقة خلف جفون الوطن)، ثم عبر دعامات إطارية جزئية من المشاهد (الومضة) ما قبل النص والتي يمكن بلورتها في: (لا تحدث الغيم عن آلامنا، حتى لا تنمو في حقولنا سنابل الوجع) صورة حدسية مكثفة ،ثم النص (انتظار ) بمافيه من صور جزئية صغرى كدعامات بنيوية صغرى متناهية تضع في مجملها ملمحا متوسطا لمشهد جزئي نحو: "شاحب وجه الانتظار، لصباح يورق من فم النيران، بأرض تغتسل كل صباح بدم البراءة، ودمع الحداد، كل مساء تلبس ثوب الرجاء.. الناصبين خيام أرواحهم على أرصفة الضياع...."، ثم ينتقل الناص إلى دعامة أخرى (ومضة عتبة) قادمة، نحو: (تتساقط أحلامنا كل يوم كفتات الخبز ) ثم تأتي البنى الصورية الصغرى في النص (ساعي البريد)، نحو: "لا نحل في مروجنا ولا فراشات تطير..فر الأمان من عيوننا.. تحجر الرحيق.. وجفف الريح حناجر الزهور.. الكل يبدو راكضا وفي يديه خنجر، أو كسرة من الرغيف".
وهكذا حتى نهاية الكتاب
ما وقدم من تحليل لخطاب (عائشة المحرابي )الشعري يعد محاولة لتفكيك الخطاب، غايتها تحديد الهيكل العام لبنية الخطاب الشعري في كتاب (عالقة خلف جفون الوطن) في إطارها العام (الغلاف)، دون الغوص في أعماق النصوص.
كما أن قولنا:" اتكاء الناص على الصورة المكثفة ،كمحور رئيس غاية إنجاز النص/ الخطاب_لا يعني إلغاء عنصر الإيقاع/الموسيقى"، فكل نص شعري يقام في طبيعته على ثنائية الصورة /الإيقاع، لكن ثمة مغايرة في الخطاب الشعري الراهن ،وخاصة في قصيدة (النثر)؛ إذ تتكئ قصيدة النثر على تكثيف الصورة ومناسلتها داخل النص ،كمحور بنائي يختزل معظم عناصر البنية بداخله.
ففي نصوص (عالقة خلف جفون الوطن )، لانستطيع استلال البنية الإيقاعية بعيدا عن الصورة، إذ تتداخل الصورة والإيقاع معا، ولايمكن للمتلقي فصل أحدهما عن الآخر، ومن ثم فالإيقاع يتجسد في التقابل بين التراكيب المنزاحة، إما عبر التكرار أو التوازي أو التقابل بين أطراف وعناصر الصورة (الواقع والمخيل)، أو التناسل المتناهي لجزئيات الانزياح الاستبدالي والتركيبي معا.
ومايمكن أن تنماز به الموسيقى في قصيدة النثر عن الأشكال الشعرية السابقة ( التفعيلة، المرسل، العمودي) هو أن الموسيقى في قصيدة النثر ذات طبيعة معقدة ،إذ لايمكن أن تتجسد إلا بالتناسق والتوافق بين رؤية الناص والنص وذهنية المتلقي في أثناء عملية التلقي، بعد أن يمخض هذا التناسق والتوافق إيقاعا داخليا قائما على الإنسجام والقبول والتماهي بين ذهنية المتلقي والذهنية التي انتجت النص والنص.
وانطلاقا مما سبق، فأن الإيقاع / الموسيقى في نصوص (عالقة خلف جفون الوطن ) يبرز في مستويين:
الأول :نصوص قائمة على التفعيلة كوحدة موسيقية كبرى، وهي قلة، أما الثاني وهو الأغلب فيتجسد الإيقاع فيه عبر تراتبية التراكيب المنزاحة عن المرجع عن طريق الانزياحات الاستبدالية المكثفة (الاستعارة، المجاز، الكناية) والتي تقابلها إنزياحات تركيبية في اللغة ،كالتقديم والتأخير، والحذف، والاعتراض..
ومن ثم، وبطريقة إجمالية فإن الإيقاع في نصوص (عالقة خلف جفون الوطن) يبدأ من الوحدة الإيقاعية الكبرى(العنوان) بما فيه من تناغم وتجانس صوتي كإيقاع ظاهر، وما يليها من توزيع ممتد أفقيا لومضات استهلالية قبل كل نص ،والتي تشكل وحدات إيقاعية مجملة تبدو كإضاءات متناوبة، منخفضة حينا ومرتفعة الإضاءة حينا آخر عبر توزيعها الأفقي، ثم تأتي الوحدات الإيقاعية الصغرى التي تتوزع داخل كل نص عبر التوافق في التراكيب والتناسق وتواتر الصور الذي يعد أشبه بإضاءات صغرى تتناوب في حدتها وألوانها لتتشكل في ذلك التوافق والتناغم المفترض مع ذهنية المتلقي_في إيقاع داخلي يتجسد من خلال تواتر و استمرار الاتصال بين المتلقي والنص.