وكأنني خرجت من زنزانة قضيت بها قرناً وعام فهرعت لأفتح كل نوافذ المنزل كي تسمع الجدران هي الأخرى تلك الهتافات والأغاني الوطنية وترقص الثريات وتبتهج تلك الملامح الكئيبة في لوحات بيتر بول المعلقة في كل غرفة.
ركض الجميع بجذل مردداً "عاد سامي"
لم أستوعب الأمر وارتجفت أطرافي الحائرة والتي انطلقت نحو خزانة الملابس لأنتقي منها فستاني البني الحريري الخالي من أي تفاصيل وكانت عقارب الساعة تستعجلني وتدور لأدور معها حول نفسي تائهة لا أدري كيف أتهيأ وأنا التي ما تهيأت يوماً للقائه فارتديت اكليلاً من الزهور القماشية السوداء على شعري وجعلته منسدلاً إلى اليسار كما أخبرني في ليلة قمر بأن تلك تسريحة شعر ساندريلا التي كان ينتظر قدومها إلى حفلة باذخة بحذاء زجاجي وقد ضحكت من أعماقي حينها وأنا فتاة السواقي والمروج القادمة من قرى "تاباي" والتي أقحمتها الحروب في قصر عمها الضيق بأحلامها وحريتها.
ووحده الحب من أطلق سراحها وأعاد إليها وطناً مسلوب وجعلها تتعالى وتقف موازية ومنحنية تواضعاً للجبال العالية فقط.
كان ينبغي عليها أن تسرع وهي ترى كل من حولها يركض بجنون للقاء من ذهبوا للدفاع عن الوطن وعادوا مرتدين أوسمة النصر التي زينت الشمس بها جبين كل منهم وجاءت ترافق موكبهم من الشرق يمشون بخطوات تهتز لوقعها الأرض وتصاحبها أوراق الشجر بحفيفها المنتشي.
سرت هادئة معهم ومع كل خطوة تتعالى صوت ضربات قلبي ..إنها الأشواق وسأفرد أجنحتي لعناقه رغماً عن الأعين وسأفتش جيوبه وأسطو على ما وهبته إياه الحرب ولو كان رصاصة وإلا سأكتفي بخوذته التي تحمل رائحة شعره العطر الذي امتزج بالبارود والنار.
من البعيد يقترب شاب يحمل بخفة متاعه على ظهره ويسير وتلك الابتسامة تشرق كما شمس أخرى فأسرعت باتجاهه بنات عمي وأم أقسمت على نسيان أنه ولدها لأنه ذهب إلى القتال دون أن يخبرها و ها هي أول من يعانقه بالدموع والحمد.
أدور بنظراتي حوله كما الأسئلة وأقترب منه ليتفلت من قبلات أخواته ويقترب مني مبتسماً بارتباك.
"اشتقت إليك.. كم تبدين فاتنة اليوم"
"حمداً لله على سلامتك ..حقاً أفتقد جنونك.. ولكن أين هو..؟"
لم أنه سؤالي فقال بصوت غاضب :
"ماذا تريدين بخائن مثله.. لقد قابل إحدى الممرضات وذهب معها.. انسي أمره"
فجأة تحول نور الشمس في وجهي إلى ظلام وعتمة امتصت الهواء وتركتني أعاني شهقات الموت عاجزة حتى عن البكاء وتصديق ما يدور فقلت لسامي بصوت متهدج ألما لا نهاية له :
"تلك المرأة التي رحل معها منهل ماهي إلا قضيته.. خانني مع وطنه"
انفجرت البراكين من أعماقي حين رأيت دموع سامي وحين أخرج من جيبه مذكرة صغيرة وبعضاً من رسائلي وحاول تقديمها لي فابتعدت عنه كما أبتعد عن الواقع.
لقد كان هو من يرد على رسائلي الأخيرة وكيف نسيت قدرته على تقليد خطوط الآخرين وكيف فكرت لوهلة أن تكون الحرب قد سلبت منهل قدرته على التعبير وأن البارود قد حل محل حبره وأنا أوراقه التي يخط عليها بحنان مشاعره.
ذهب الجميع بينما أقف منتظرة أكذب الجميع وأصدق هاتفه الأخير حين قال :
"سأعود لنتناول الجبن الساخن تحت قمر بلادي الحر"
ها قد أصبح الوطن حراً وسيزور القمر السماء بعد ساعات وأنا أرتدي ما يحب وأقف في طريق لن يعود إلا منه.. ولكن لماذا لا يعود.
أصبحت وحيدة أنا والطريق في انتظاره أبسط ذراعاي في الهواء، أنتظر عناقه وأن أتعطر برائحته الأشبه بالحلوى والشوكولا.
أغمض عيناي وأناديه وأراه مقترباً في أعماقي ولكن الطريق يطول كلما كاد أن يصل.