قراءة جمالية في المجموعة الشعرية:
"وكان البيت أخي السابع” للشاعر السوري المغيرة الهويدي ... د. فريدة إبراهيم*
دراسة نقدية - فضاءات المستقبل

صدرت للشاعر السوري”المغيرة الهويدي” مجموعته الشعرية الثانية”وكان البيت أخي السابع” عن دار ممدوح عدوان 2019، بعد مجموعته الأولى(الحب لا يغادر البلاد).تتكون مجموعته الثانية من مئة وستّ وعشرين قصيدة، تتمحور في مجملها حول ثيمة: الحرب والحب والغربة والوطن والحرية.. إذ كتبت الذات الشاعرة أهوال الحرب، وكشفت وجهها القبيح وما تخلفه من أوجاع في النفس البشرية، ورغم ما تعانيه هذه الذات، إلا أنها توميئ وإن بصورة خافتة، للأمل المنتظر الذي قد نتلمسه في عشبة تنبعث من بين الركام (أريد أن أكتب العشب، العشب الذي سينبت على حديد المدافع). تحاول هذه القراءة النقدية، الوقوف على مواطن الجمال التي انبنت عليها التجربة الشعرية، من خلال مقاربة دلالاتها، والتعرف على بعض تقنياتها الفنية.

جمالية العتبات النصية
عتبة الغلاف

تشكل العتبات النصية، منطقة تعاقد استراتيجية للتأثير على الجمهور، حسب”ج.جينيت”. فالعتبات علامات دالة تتعاضد لتمنح النص دفقة شاعرية، تجذب القارئ وتسوق للكتاب. وتعد عتبة الغلاف أول عتبة تقابل القارئ، باعتبارها خطابا يحمل(رؤية لغوية). يغلب على غلاف المجموعة الشعرية، الألوان الداكنة، كاللون الرمادي الذي يتخلله اللون الأسود واللون البني، وفي ذلك دلالات توحي لمسحة الحزن التي قد تميز القصائد. يتوسط الغلاف لوحة مرسومة لبيت كبير، أو بناية تتراص فيها الشقق التي تبدو مهجورة. خلف البناية تبرز خيمتان أو أكثر بلونهما الأبيض المبهج. يعلو هذه اللوحة وجه طفل بلا ملامح، تحتضن يده البيت الذي تخرج من نوافذه طائرة ورقية، ترافق الطيور المحلقة في الفضاء. في أعلى صفحة الغلاف كتب عنوان المجموعة الشعرية بلون أبيض مبهج، قد يوحي لارتباط حميمي للذات الشاعرة بهذا البيت، وباللون الأبيض أيضا، رسمت طائرتان ورقيتان تتموضعان على جانبي العنوان بشكل متقن، محمّل بدلالات متعددة. في وسط الغلاف يرتسم اسم المؤلف بلون أسود، يثير التساؤل عن سبب اختيار هذا اللون الدال على الحزن، تحت اسم المؤلف مباشرة، وضع تجنيس الكتاب، مشيرا إلى جنس الشعر. وفي أسفل الغلاف، وضع رمز دار النشر. واحتوى ظهر صفحة الغلاف مقتطفات شعرية من القصائد، تشي بالطابع الغالب عليها. 
مما سبق يمكننا ملاحظة، العلاقة الوثيقة بين اللوحة المرسومة على وجه الغلاف، وعنوان الكتاب”وكان البيت أخي السابع”، بالإضاغة إلى الدقة في اختيار الألوان وتناسقها، مما يسهم في إضفاء المزيد من الجمال على المجموعة الشعرية، ويبرز براعة المصمم، وهو ما يحمد لدار النشر التي أولت اهتماما بالغا بتصميم الغلاف في توافقه مع مضمون العنوان، وهو الشيء الذي نؤكد عليه، لأهمية الدور الذي يلعبه الغلاف، باعتباره نقطة التواصل الأولى بين القارئ والنص.

عتبة العنوان
يرى “جيرار فينييه”، أن العنوان بنية رحمية تولد معظم دلالات النص وأبعاده الفكرية والإيديولوجية.. ويلعب العنوان دورا هاما، باعتباره علامة تسويقية، جاذبة للقارئ الذي يسهم في إنتاج المعنى من خلال تفكيك شفرات العنوان. يدل عنوان المجموعة الشعرية “وكان البيت أخي السابع” على المكان، ويتميز بالطول بالنظر إلى العناوين التي عادة ما تتصف بالاقتصاد والتكثيف، وينتمي إلى نوع العناوين الموضوعاتية التي تشي بما قد تحتويه القصائد. وإذا حاولنا استنطاقه باعتباره تركيبا مكونا من علامات لغوية دالة، تستوقفنا كلمة البيت المكتنزة بدلالات اجتماعية وفلسفية وتاريخية… فالبيت باعتباره فضاء جغرافيا مغلقا، يرمز إلى الاستقرار والأمان والعائلة.. وتزداد أهميته في زمن الحرب، إذ يمثل الملجأ والحماية، أو أن يكون معرضا للهدم، فيتشرد أهله.
يتشكل العنوان من جملة فعلية مستوفية لأركانها وذات معنى، تتكون من الفعل الماضي الناقص الذي يحمل في طياته مؤشرا زمنيا، يوحي بانقضاء الحدث وزواله، والمعنى المقصود منه، تفسّره الجملة الاسمية (أخي السابع) التي تخبرنا عن هذا البيت المعرّف(بأل التعريف) والتعريف هنا، يقلّص احتمالات التأويل، لنكون أمام بيت يخص الشاعر، لكن كيف يمكن أن يُؤنسَن البيت؟ وما دلالة رقم سبعة؟ هل يستمد حمولته من الدلالات الأسطورية؟ لا يمكننا الجزم بالإجابة على هذه الأسئلة إلا بالرجوع إلى القصائد، لكن كلّما ازداد التساؤل حول العنوان، كلما انفتح باب التأويل، لإثراء عملية التواصل التي هي غاية المؤلف.
يختصر العنوان “وكان البيت أخي السابع”، المعاناة التي تعالجها نصوص المجموعة الشعرية، ويمكننا أن نجملها في قول الذات الشاعرة:(البلاد عطب في ذاكرة الرجال)، فالبيت بحمولاته المتعددة قد يعني أيضا، الوطن الذي نال حظه من الدمار ولم يعد صالحا للبقاء، كما يبدو البيت في معناه القريب، في قول الشاعر:
(قذيفة واحدة
كانت كفيلة بهدم البيت وتهشيم ذكريات العائلة
وحده ثوب أمي على حبل الغسيل
ظل يلوح بكميّه مودعا).
ثم تسترسل الذات الشاعرة في استعادة ذكرياتها بكل تفاصيلها المحزنة، فنتعرف على:ممرات هذا البيت ونوافذه، خزائنه وتلفازه القديم، كومة الصور وألعاب الأطفال…يقول (غ.باشلار): إن الذكريات المتعلقة بالبيوت القديمة تظل معنا، وتعاش من جديد كأحلام يقظة، أما أشياء البيت التي كانت تشغله، فتشكل صفة الألفة مثل الإنسان، فهي بمثابة العضو الحقيقي النابض في حياتنا النفسية الخفية، ودونها تفقد حياتنا الألفة. يقول الشاعر:(أريد أن أعود إلى هناك/ أريد أن أشاهد بيتنا المهدم/
أريد أن أتحسس حجارته/ ألمس خشب أبوابه المتكسرة).
بناء على ما سبق، يبدو جليا الاختيار الدقيق للعنوان الرئيسي، فهو يشكل نواة القصائد، خاصة بعد تعرفنا على موضوعها الأساسي والذي يعكس في مجمله الوجه القبيح للحرب، وما تخلفه من دمار للبيوت والأوطان وتهجير السكان. وبمراجعة فهرس عناوين القصائد، نلاحظ أنها عناوين محرضة لمخيلة القارئ ومثيرة للتساؤل، مثل(إعلان الخطيئة، كوابيس اليقظة، أجساد ناقصة..)،وتتميز بلغتها الشاعرية المكثفة التي تستمدها من اختيار الكلمات المتقابلة التي تخلق المفارقة والتضاد، مثل(قبلة مضاءة، بلد مطفأة..)، تضفي هذه اللغة على النصوص أناقة جمالية مميزة.

الحب في مواجهة الحرب
في الحرب يفقد الإنسان الأهل والبيت والوطن، والكثير من الأشياء التي تتحول إلى مجرد ذكرى، تحاول الذات الشاعرة إعادة صياغتها، لكن كيف يمكن التغلب على الحرب لمواصلة الحياة؟
منذ الوهلة الأولى نلاحظ أن الكلمة الافتتاحية، لأول قصيدة(ضحكة امرأة..نباح كلب) التي تتصدر المجموعة الشعرية، هي كلمة(الحب) المؤكدة بالضمير المنفصل (هو)، فالحب الذي يمثل طوق النجاة بالنسبة للشاعر في زمن الحرب، هو الحب ذاته المرفوض في وطن لا يعرف الحب، ويطارد المحبين، يقول الشاعر:(هو الحب قاتلنا الطليق! / ينصب لنا الفخاخ أبوابا مغلقة/
وحيدان في تجهم البلاد/ البلاد التي تكره نفسها / لكننا ودون أن نثير ارتياب البلاد/
مضينا جهة الهروب / فكان الحب!/ وكان خلف الباب من كل قبيلة كاهن يترصدنا).
تغلّب الذات الشاعرة زمنها الشعري، المتمثل في المضارع الممتد، الناقل للأحداث التي لم تنته بعد، فالفخاخ ما تزال تنصب، والأوصياء ما زالوا يترصدون، والبلاد ما تزال تكره نفسها.. وحتى حين تعبّر الذات الشاعرة عن الحدث بالزمن المنقضي، فإنها تهرب جهة الحب الذي يظل في موضع الارتياب والتأهب. مما لا شك فيه، أن الانطلاق من ثيمة الحب لم يأت صدفة، إذ يبدو جليا أن الشاعر يعلي من هذه القيمة الإنسانية التي كانت وما زالت هي طوق النجاة، حين تقسو الحياة على الإنسان، أو حين يعم ضجيج الرصاص، فيبحث الإنسان عن الحب ليحتمي به، خاصة إذا كان هذا الإنسان يمتلك إحساسا مرهفا كالشاعر، وبذلك يكون الشاعر قد انتصر للحب، وآمن بانتصاره على الحرب، ويمكننا تلمّس ذلك في الكثير من اللوحات الشعرية المنتشرة، نختار منها هذه اللوحة الشعرية النابضة بالحيوية، حيث يعود الشاعر في كل مرة إلى قلب المحبوبة، بعد مشاركته في المعارك، ليغتسل من آثار ما علق به، فتكون الحبيبة درعه الحصين الذي يحميه من الانهيار.
(كل يوم تستبيح الحرب شبرا من خارطة القلب / تدنسه بالخوف والرايات وفوهات البنادق/
كل يوم أعود إليك مثقلا بالموت / مهزوما أو منتصرا / 
كل يوم تغسلين آثار الدماء على ثيابي / تكنسين شظايا الزجاج في عروقي/
تشعلين في مسامي حرائق لذيذة / بضحكة تطغى على صوت انفجار لغم).
تبدو لغة القصيدة مشبعة بالمجازات التي تضفي على اللغة الشعرية، سمتها المميزة أي الانزياح، أو ما يسميه “يان موخاروفسكي” التحريف الذي يحطم معايير اللغة المألوفة، معتمدا التكثيف، مانحا للغة قيمتها الإيحائية ، ما يؤدي إلى الحفر عميقا في مخيلة القارئ، لإشراكه في إكمال النص. ويجدر بنا هنا أن نتساءل، عن ماهية هذه الحرب التي تأتي منها الذات الشاعرة مهزومة حينا، وأحيانا منتصرة؟ إنها وكما تقول في قصيدة (حرب ليست كالحرب)،حرب الإخوة الأعداء المتخفين بأقنعة تنتمي إلى طين هذه الأرض:(أريد حربا تشبه الحرب/ وعدوا هو العدو، بلا قناع من طين هذي الأرض).
و(عندما لم تتسع هذي البلاد لنا، حملنا حقائينا ومضينا)، بحثا عن حرية تشمل الجميع، تحضر الحرية كثيمة أساسية في المجموعة الشعرية، حيث تستحضر الذات الشاعرة، زمنا آخر محملا بملامح شخصية روائية متمردة للكاتب”نيكوس كزانتزاكيس”، شخصية زوربا” القائل:”لا آمل في شيء،لا أخشى شيئًا ،ولا أتوقّع شيئًا ،فأنا حر”. تظل الحرية مثار جدل عنيف، وهناك من يحاربها بحجة الوصاية على الآخر. ينحاز الشاعر للحرية، فيقدم لائحته الحياتية رافضا كل وصاية، عبر ما يسمى بتفاعل النصوص وحوارها، أي علاقة نص حاضر بنصوص سابقة أو معاصرة له، إذ نجد في (زوربا السوري) محاكاة “لزوربا اليوناني” الذي اتخذ من الرقص وسيلة للتعبير عن رفضه لكل منغصات الحياة. تقدم الذات الشاعرة رؤيتها لانعتاقها بلغة واضحة وممتعة:(قل هي الحرية في ألا أختار طريقا يفضي إلا إلى الرقص،
وأعد الكرّةَ
-بلادك تخلت عنك
لم تترك لك جبهة لتقف فيها
فقف بالرقص).
استفادت لغة المجموعة الشعرية، من تركيب العبارة الشفوية ذات الإيقاع الجذاب، المشبع بحمولة اللغة المحلية التي تعكس ثقافة المنطقة، فتأتي اللغة متأنقة، متوهجة كامرأة تبتهج تحت المطر الذي (يهطل ليصل ساق امرأة ترفع ثوبها عن الأرض/تشكله بطرف سحابة صيف عابرة). تحضر المرأة، باعتبارها جزءا مهما في حياة الرجل “الرقّاوي” الذي يتغنى بها في تراتيل ربابته و(يرفع كأسه لنخب الـ”موليا”وهي تعبر المسافة بين بابها/ والرصيف المقابل)، يحضر أيضا، الشاي، مطر الصيف،شجرة الزيزقون..، وتفاصيل أخرى جميلة، تجعلك تتعرف على ما يحبه أهل “الرقّة” التي لا تعرفها، وهي من سوريا التي تظن أنك كمواطن عربي تعرفها.
أخيرا، وبما أن الحدود بين الأجناس الأدبية، قد أصبحت (أقل استقرارا من الحدود الإدارية للصين) كما يقر(جاكبسون)، يمكننا الإشارة إلى بعض التقنيات السردية التي تخللت القصائد، وأضفت عليها جمالية مميزة، مع الحفاظ على معمار القصيدة الإيقاعي والتصويري، حيث تجلّت براعة الشاعر في نسج القصائد على شكل حكاية مكتملة العناصر؛ من سارد ومسرود له وحدث وزمان ومكان، تجسّد ذلك في(كوابيس اليقظة)، إذ يحكي السارد حكايته بضمير المتكلم، متوجها إلى مسرود له يحاوره في زمان ومكان محددين. وتحضر أقوال الشخصيات، لنكون أمام حكاية متعددة الأصوات بالاعتماد على صيغة (قالوا)، كما في قصيدة(السعلوّة). واستخدمت تقنية الحوار بشكل فعال، كما برز المونولوج في(عباءة تحت المطر).
تسهم هذه التمازجات الشعرية السردية، في خلق مجال أرحب لأفق القصيدة الدلالي والجمالي.
ختاما، لا بد من الإستعانة بالجزء الأول من مقولة “كروتشيه”(على الناقد أن يقف أمام مبدعات الفن موقف المتعبّد..)، لقد كنت مجرد قارئة، وقفت طويلا موقف المتعبّد عند كل ما أبدعه الشاعر، وتحسست بعض مواطن الجمال، ولاحظت التطوّر الذي شهدته قصائده، مقارنة بمجموعته الشعرية الأولى. وأقول أنه لا أحد كالشاعر يمكنه أن يجمّل حياتنا، ويجعل الشعر أجمل، حين يعبّر بصدق عمّا يجيش في النفس الإنسانية ، فيلامس حزنها وفرحها وآمالها. وإذا كان الشاعر قد انتصر لقيمة الحب بانطلاقه منه، ثم عرّج على القبح، ليسمعنا أقوال الحرب، وأقوال المنفيين قسرا، فإنه ختم تجربته الشعرية، بقيمة الحرية التي لا يمكن للإنسان أن يتنازل عنها، وفي ذلك إشارات موحية للاختيار الصعب الذي قد يتبناه الإنسان، في زمن الصراعات.

*ناقدة جزائرية

* نقلا عن المجلة الثقافية الجزائرية 

متعلقات