رواية الخباء لميرال الطحاوي "أغنية عذبة لزمن يتلاشى"
المستقبل اونلاين

الخباء لميرال الطحاوي
أغنية عذبة لزمن يتلاشى

بقلم: الشاعر والناقد اليمني علوان الجيلاني

الساعة الثالثة بعد منتصف الليل أنهيت قبل قليل قراءة رواية الخباء لميرال الطحاوي ، ثم أطفأت جهاز الكمبيوتر وتأكدت من إطفاء جميع أنوار البيت وأويت إلى فراشي ، ولكن النوم يرفض أن يلامس جفوني.. ففي أهدابي تسكن أطياف فاطمة، وصفية وفوز وريحانة، وموحة، وسردوب وغيرها من شخصيات الرواية.
أشعر بشجن وحنين صارخين يلتهمان ليلي ، أشعر بذاكرة الطفولة كلها تستيقظ ، وتشعل مجامرها بين أضلاعي؛ عشرات الوجوه والمواقف والمصائر والأحداث التي مرت بطفولتي في تهامة يمر شريطها الآن في ذاكرتي، لم يحدث لي هذا إلا مرات قليلة؛ منها مثلاً ليلة شاهدت فيلم (الطوق والأسورة) وليلة شاهدت فيلم (عرق البلح) أو عندما شاهدت على القناة الفرنسية الخامسة فيلماً أفريقياً عنوانه (الجدة)..
خطرت ببالي الكاتبة ميرال الطحاوي ، وها أنذا أعترف أنني أتابع أخبارها كثيراً، لكني لأول مرة سأقرأ لها، حملت روايتها (الخباء) وبحماس عادي دخلت إلى عالمها. قلت لنفسي: إن لم تعجبني سأنصرف عنها وأبحث عن غيرها ، لكنها كانت أكثر جاذبية مما توقعت فما هي إلا صفحات حتى اختلط عالم شخصياتها بعوالم طفولتي، تداخلت بيوت البدو وأخبيتهم في روايتها بمرابع تهامة وعششها.
الخباء رواية فائضة الثراء بما يتيح للتعدد القرائي أن يحضر بكامل أدواته ، لا أستطيع فصل ذاتي كلما فكرت في مقترب يمكن من خلاله الحديث عن الرواية، لشدة ارتباطها المُذَكِّرِ بعوالم طفولتي كما أسلفت، ولارتكازها على حس توثيقي أنثروبولوجي يستحضر ويقرأ ويقدم في نفس الوقت زمن الشفاهية المتلاشي في جغرافياتنا النائية تلك الجغرافيات التي بالغت المراكز في تهميشها سياسياً وثقافياً واقتصادياً تهميشاً لم يخل يوماً من استعلاء وتجافٍ، وكأن تلك الجغرافيات فائض عن الحاجة؛ أو هي الأطراف المتهتكة في الثوب الطويل الشاحب على جسد الوطن.
سيجر هذا الاتكاء لغة الرواية إلى التلون بالمحكي ، وإلى الاستعانة بنصوص الشعر الشفاهي المغنّى التي لا يقتصر دورها على كونها فناً تحتضن الرواية لوعته الغابرة، أو تتقصد الكاتبة إقحامه لغرض وثائقي؛ بل إن النصوص المختارة منه لتتحول إلى عتبات ومفاصل قوية الدلالة في سياق المسرود..
" وحطيتك على بابهم غفير
وين ياحجر بيت غاليين "
الاستعانة بنصوص الشعر الشفاهي المغنّى مثل الاستعانة بالحكاية المروية التي تحضر دائماً بوصفها فاتحة للحكي ، ومبرراً لتداخل لغة الكتابة بالمحكي الشفاهي:
(كان فيه ملك وملكة لا ينجبان إلا بناتاً.. إلخ)..
ناحية أخرى لا بد من الإشارة إليها في الرواية ، هي ذلك التداخل بين الخيال والحقيقة، وبين الأوهام والوقائع التي يتعايش الناس معها ويساكنونها ، يألوفنها ويتحدثون إليها؛ سواء تعلق ذلك بعوالم المخلوقات الماورائية ، أو بعوالم الحيوات والطيور والحشرات. وقد عبرت لغة السرد عن ذلك التداخل والتعايش بنجاح من خلال لغة تتداخل فيها الضمائر، وتقف على حدود الالتباس بين ما هو حقيقي وما هو وهم ، ما هو وقائعي وما هو خيالي ويتأكد فيها الاحتفاء بالبيئة وجيراننا فيها من خلال إعادة الاعتبار لتلك البيئة بوصفها فضاءً له وجوده الممتلئ بالحيوانات والمخلوقات الأخرى المتعايشة فيه، حيث كل شيء يكمل الآخر ويستطيع أن يقيم معه تفاهماً خاصاً؛ ناهيك عما في الرواية من وعي بقضايا التحرر الأنثوي والتعبير عن التوق لكسر الحواجز التي تضعها جدران ببوابات ضخمة من العادات والتقاليد.
بعيداً عن الشعاراتية والتلبس بكراهية الآخر كانت الإيحاءات باذخة في الرواية فإذا كانت الشجرة رمزاً للحياة ولحرية العيش والنمو والعطاء ، فإن كل محاولة لاعتلائها من أجل رؤية ما وراء البوابة الضخمة كان يؤدي إلى كسر الرجل، وإلى التخويف من كسر الرقبة وهذا دال على الموت التام في خندق التقاليد السلبية .
ثمة مغزى آخر يتعلق بما يطرأ علينا وعلى المكان من تبدلات، ثمة ثمن ندفعه دائماً، حين نتخلى عن شيء مّا فينا ، فلا يعود المكان كما هو ولا نعود نحن كما كنا، وبعد زمن نعود لاجترار الزمن القديم كما فعلت فاطمة بطلة الخباء التي ارتبطت مغادرتها لمضارب أهلها في الصحراء وتعلمها للغات جديدة يبتر ساقها ، وهو وضع ذو دلالة مميزة هنا -خاصة - وهو يتزامن مع دأب صديقتها الأجنبية والمشرفة على تعليمها.. في تهجين سلالات أجنبية من مهرتها خيره ، كل ذلك يمكن أن نقرأه بوصفه دالاً على ما نصير إليه بفعل التطور والتغير والتبدلات..
هناك تلميح خفي إلى استمتاع الأجانب بدراسة مجتمعاتنا بوصفنا موضوعاً أنثروبولوجيا نلمسه من خلال طلب آن الأجنبية من فاطمة أن تحكي عن عوالم الصحراء لضيوف حفلاتها من الأجانب، وهو وضع تتمرد عليه البطلة ، كأنه معادل لتمردات كثيراً ما تشهدها النخب المثقفة إزاء علاقة المؤسسات والباحثين الغربيين بنا بوصفنا موضوعاً أنثروبولوجياً..
نفس هذا المعنى تؤكده الكاتبة في أحد حوارتها (الرحلة إلى الآخر تجعلنا أكثر وعياً بذواتنا) غير أن ذلك لا ينفي أزمتنا مع أنفسنا، وأن انشقاقنا الداخلي إزاء التصادمات في واقعنا بين فقدنا لهوية قاهرة قاسية وقديمة ولكنها بالغة الحميمية وهوية ما تزال تتبلور أقسى ما فيها أننا لا نشعر لها بطعم أو لون..
تشير الرواية إلى هذا بشكل غير مباشر كالعادة، فقد عادت فاطمة إلى مضارب أهلها عرجاء تتغنى بزمان قديم طالما تمردت عليه، وتواجه حاضراً يعزلها وتنعزل هي عنه، فلا شيء كما كان مع أن كل ما في الحاضر يجبرنا على الغوص في آبار الذاكرة.
إن رواية الخباء بمقدار ما تجرح عقولنا بتبدل المصائر وبؤس الكائن في تقلبات الحياة ، فإنها تضع قلوبنا في مهب نوستالجيا لا ترحم ، حيث ريح الحنين لا تقتلع شجر الماضي ولكنها تزرعه ليصير ذلك الماضي انتماؤنا الوحيد وثيمة وجودنا الفائضة فنحن لم نكافح للخلاص منه إلا لنجتره بعد ذلك طوال العمر .
وإن أكثرما نجحت فيه الرواية هو ذلك المزج البارع بين الفكرة والغناء النوستالجي الذي يفتح القلب على أزمنة لا تعود ، أليس فن الرواية في جانب كبير منه ملاحم ذاتية ؟
إنه كذلك فعلاً وما قدمته الطحاوي في " الخباء" هو أغنية للذاكرة ، ذاكرتها وذاكرتنا وهي تبهرنا بطريقتها الخاصة في استعادة ذلك الزمن المتلاشي ، لقد اعادت تركيب الماضي ليس بالضرورة تركيباً حرفياً ، هي أعادت تركيبه بشرطها الخاص، شرطها الذي صنعه جمال انفعالها بالغناء على وتر الذاكرة وبالحنين النوستالجي الذي اجترحته.

متعلقات