لقد اخترت الكتابة عن أكثر أبناء هذا المجتمع جمالاً وتعبيراً عن هوية الشعب وملامحه ، وأكثرهم امتلاءً بثقافته وتنوع تراثه و ثراء تاريخه.. لكن هؤلاء الذين ملأوا عقولهم وقلوبهم بنا ، يجدون أنفسهم معظم الأوقات مرغمين على التعايش مع إجحافنا بهم.. فمؤسسات الدولة –إن جاز أن تسمى كذلك – تحجبهم بأقفالها المتينة وتصر بغباء وجهل وأحياناً كثيرة بقصدية وخبث أن تضعهم في قماقم مغلقة تلقي بها في ظلام محيطات من التهميش والإقصاء والتجاهل ، والمواطنون في معظم الأوقات يفعلون الشيء نفسه .. فالذاكرة ضعيفة والناس على دين ملوكهم .. أما الأخطر من ذلك فهو إجحاف الأدباء والكتاب بأنفسهم .. صحيح أنها علة قديمة وموجودة في كل البلدان وفي كل الأزمان ..وقد قال القدامى : المعاصرة حجاب ..لكن العلة عند اليمنيين دائماً أكبر وربما أنهم بسبب هذا قد صكوا المقولة الرديفة : المعاصر لا يناصر . فبعد بحث طويل وجدت أن أول من استعمل هذه المقولة المؤرخ عبد القادر العيدروس في كتابه "النور السافر في أخبار القرن العاشر" .
والمشتغلون بالكتابة في اليمن من شعراء وساردين ونقاد ومؤرخين ومفكرين وصحفيين وأكاديميين يخلطون معظم الأوقات بين التباين في المواقف والرؤى والإختيارات والمناهج وحتى الأساليب والأشكال وسائر الإشتغالات التي يجد الواحد نفسه متحيزاً لها وبين ضرورات التقدير وواجب التقييم المخلص والتحية المنصفة للآخرين ..والبخس عندنا لا يتوقف على آفة الخلط .. فهناك الحسد والفرز المناطقي ، والإستبعاد الإجتماعي ، والسياسي ، والشللي ، ناهيك عن التنميط الذي يعد أشد تلك الأمراض فتكاً وأكثرها حقارة لكونه يقوم على جهل بالمستهدف وإنتاجه .. ويروج له صوراً نمطيةً ظالمة تتكاثر في الشائعات والمشافهات المستهترة ..ولا عجب إذن أن تنضج ثمار كثيرة على شجرة الأدب والفن والفكروالثقافة في اليمن دون أن يتذوقها أحد .. قليلون جداً من يشعرون بها .. وهم يشعرون بها في إحدى حالتين حين تقع فريسة مرض لا نجاة منه ، وحين تسقط ميتة .. ثم لا يذهب شعورهم الآني تجاهها أبعد من قصيدة رثاء أو عمود تأبين .. أو منشور من سطرين على الفيس بوك..
وفي هذه الحالة لا تتوقف المأساة على ماضاع من أعمارهم الإبداعية في غياهب التجاهل والفقر والمعاناة التي تعيقهم عن الوصول إلى التحقق الكامل سواء من خلال مراكمة الإنتاج أو من خلال القدرة على إيصاله إلى المتلقي بالنشر أوبغيره من وسائل التوصيل.. بل إن المأساة لتتواصل بعد رحيلهم بتشتت ما تبقى من نتاجاتهم وظهور فجوات في سيرهم ومحطات حياتهم يصعب على من يأتي بعد ليدرسهم أو يؤرخ لهم أن يتغلب عليها ..فغياب التوثيق سمة أخرى من السمات السلبية الغالبة على المشهد الثقافي اليمني..أما إذا تساند غياب التوثيق مع إهمال الأسرة وغباء الورثة وشقاقاتهم أو محاولاتهم التعدي على ماخلفه مورّثهم بإخفاء جانب منه لأسباب سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية فإن المصيبة تكون مضاعفة ..وما أكثر ما حدث هذا ..دون أن يصرخ أحد للتنبيه على خطره والسبب بسيط جداً فالأمة التي تهمل مبدعيها في حياتهم لا يمكن أن تقدرهم بعد مماتهم .والإبداع الذي لا يتهيأ لصاحبه أن ينشره كما يريد في حياته ..لايمكن أن ينشر كما كان يريد بعد مماته .. وهذا يصدق حتى على أكثر أعلام اليمن شهرة ..فقد حدث مع البردوني والشامي والحضراني والنعمان والفضول والإرياني والشحاري والرديني وهؤلاء مجرد أمثلة لا غير ..
***
لكن العم جوجل كان أكثر كرماً وعدالة من مؤسساتنا الرسمية والأهلية ، من إعلامنا المهمل .. ومن نقادنا المقتولين بالكسل .. والمتعالين بالوهم ..وليس من مثال على كرم وعدالة جوجل من حالة الشاعر التهامي حسين علي سليمان الشهير ب( البحاري) ..
ولد البحاري في قرية الداودية ، عزلة بني مهدي - مديرية القناوص – سنة 1959م .. وتلقى تعليمه الأولي في معلامتها ، وفي سنة 1972م افتتحت أول مدرسة نظامية في الداودية وتم الحاق البحاري بالصف الثالث لأنه كان يجيد القراءة والكتابة بتمكن تام ، وبعد تفوقه في الصفين الثالث والرابع حصل بين عامي 1974 و1975م على دورتين تأهيليتين ضمن دورات إعداد المعلمين في الحديدة ، ووقع عقداً مع إدارة التربية سنة 1976م صار بمقتضاه مدرساً ..
ومنذ تمكن البحاري من فك الحرف في المعلامة .. بدأت رحلته مع الكتب .. وأدمن مطالعة المتنبي وأحمد شوقي والمعلقات السبع فيما يلح عليه هاجس دائم بالرغبة في مجاراتها والنسج على منوالها ... وبموازاة ذلك راح ينهل من الكتب التي يرسلها له والده من مغتربه في السعودية .. وتعرف على عوالم مدهشة قدمتها له السير الشعبية والف ليلة وليلة وكتب التراث من نوع المستطرف في كل فن مستظرف ناهيك عن المجلات والروايات المعاصرة .
مارس البحاري مهنة التعليم في قريته مدة سنتين كاملتين على أمل أن يتحول عقده مع إدرارة التربية في الحديدة إلى وظيفة رسمية وحين لم يتم ذلك أجبرته دواعي العيش على قطع زمن من شبابه مغتربا في السعودية .
وفي مواجع الفقد وآلام البعاد انصهر وجدان الفتى .. وسال على أوراقه قوس قزح من رحيق الشعر وألوانه .. وفي حدود سنة 1982 م تهدجت أحاسيسه على وقع بشارة من أهله بولادة ابنته البكر وكان ذلك أول نص حقيقي يكتبه ..
حتى ليلة السادس والعشرين من سبتمبر سنة 1986م لم أكن قدعرفت البحاري رغم القرابة التي تجمعنا ، كنت وقتها ألج إلى الصف الثالث إعدادي ، لكني كنت أكبر سناً من طلاب هذه المرحلة .. فحين فتحت المدرسة الحكومية في " الجيلانية " سنة 1981م كنت قد ختمت القرآن وصفيته وتعلمت مبادىء الحساب ودرست متن السفينة والزبد .. لذلك أخذت المرحلة الإبتدائية قفزاً في ثلاث سنوات ..
وحين شاهدت البحاري أول مرة كنت قد قرأت مئات الكتب .. وملأت دفاتر كثيرة ، محاولات شعرية وقصصية ، خواطر ومذكرات ورسائل ويوميات .. وكنت ممتلئاً بنفسي إلى درجة كبيرة ..
وقتها كان الشهيد أحمد الشامي جديد التعيين مديراً لمديرية القناوص ، شابٌّ ممتلىء بالحماس والحيوية ويمتلك كاريزما غير عادية حدّ أنه لا يستطيع الهدوء يوماً واحداً .. وقد قرر أن يقيم حفلاً كبيراً بمناسبة عيد الثورة تحضره كل قراها ودفع بمدارس المديرية إلى التنافس على أفضل برنامج يقدم في الحفل .. وتفوقت مدرسة الداودية التي قدمت مسرحية فكاهية مميزة بطلها صاحب " امسألة كبريتو" شاعر امزخم أحمد سليمان .. وهو ابن عم البحاري وابن خالته أيضاً .. لكن أجمل ما فعلته مدرسة الداودية تلك الليلة هو استعانتها ب " البحاري" الذي صادف الحفل عودته من الغربة لزيارة أهله ..
كان البحاري ليلتها يتزفزف متباهياً ، واثقاّ ، قوي الحضور ، بديع الإلقاء ، يلهب الحماس إيقاع بحره الطويل .. ويفجر لحظات الحفل بقافية على حرف القاف مازال في أذني منها :
قلب يذوب من الفراق ويفرق
وجسم بنار الوجد قد كاد يحرق
ونفس تروم الوصل من حرّ مابها
وعين من الأشواق في السهد تغرق
وما ذاك من عشق الحسان ودلهم
ولا من شذى ورد على الخد يعبق
ولا من جفا خلّ ولا نأي غادة
وما كل ذلك للجفون يؤرق
ولكن إلى أرض شغفت بحبها
بأنسامها قلبي يهيم ويعشق
وعرفت تلك الليلة أن هناك على بعد بضعة كيلو مترات من قريتي شباب يكتبون الشعر ويشغفون مثلي بالكتب ويقرأون الروايات .. واشتعلت روحي أسفاً على سنوات تفتحت فيها عوالمي وعوالمهم فيما نحن على قطيعة بسبب صراع مرير نشب سنة 1982م بين قريتي الجيلانية والداودية وهما أسرة واحدة يجمعهما أب واحد ..
عقب تلك الليلة ارتبطت بهم ، شاعر امزخم أحمد سليمان الذي كان وقتها يكتب معظم محاولاته الشعرية باللهجة المصرية ، والشاعر حسين سليمان الذي سيعرف فيما بعد ب" البحاري " وعبد الله سليمان – شقيق البحاري – الذي كان مشروع كاتب حقيقي لكنه اتخذ طريقاً آخر فيما بعد ، والأديب محمد عبدالله حسن الذي يعود تفوق الداودية لجهود والده واستنارته رغم أنه - رحمه الله – لم يكن يعرف القراءة والكتابة ..ثم مجموعة من الطلاب ، منهم حسن بواح " صارطبيباً فيما بعد " وأحمد عبد القادر " وكيل مدرسة الداودية اليوم ، والأستاذ محمد علي جيلان والشاعر الجميل محمد مهدي الذهب .
خلال شهور فقط من تواصلنا المستمر وتبادلنا الزيارات أنهينا قطيعة أهلنا .. واجترحنا ليالي أنس كان سمرها يتحول إلى ندوات إبداعية ومثاقفات غير عادية .. بطبيعة الحال كان البحاري أكبر عمراً وأنضج تجربة .. أو يجدر بنا أن نقول أفضل منبرية .. فقد كانت معظم قصائده تتقصد المناسبات وكان يجيد الدخول إليها بطرائق تجيد بدورها تَمَثُّل ما يبثه التلفزيون من قصائد مناسباتية تجمع بين الحماسة والترويج الدعائي لمنجزات الثورة مقرونين بصدق التعبير والجرس الموسيقي المجلجل الذي يأخذ بألباب الجماهير .. حتى وهو يلقي قصيدته بمناسبة زيارة مدير المديرية لقريته يجعلك تخاله المتنبي يمدح سيف الدولة .. وكان ذلك غريباً ومثيراً بالنسبة لي فأنا لا أحسن مثل هذه الكتابة .. فقد كنت أكثر انغماساً في قراءات نوعية تؤثر على وعيي وطريقة مقاربتي للأشياء إبداعياً ، وعندما كان يطلب مني أن أقول شيئاً في مناسبة ماّ كانت تتنازعني أصوات السياب ودرويش وصلاح عبد الصبور والبردوني ناهيك عن المهيمن الأكبر على وعيي وقتها أعني " العقاد " .. وذلك كان يقلل من شعور الناس أنهم يستقبلونني استقبالاً مريحاً ..على عكس البحاري ..
ولم يكن البحاري معنا طوال الوقت ..فالغربة تسرقه باستمرار وبين سنة 1987 و1990م لم نلتق إلا بضع مرات .. وكانت إحدى تجليات البحاري مطلع سنة 1991م في الموسم الثقافي بالحديدة الذي كان البردوني ضيف شرف عليه ..حين القى قصيدته المدوية :
وهذا أمة المجد
أوان الشد فاشتدي
وهي قصيدة ذاعت وشاعت بين الناس حينها بسبب قدرتها المميزة على مخاطبة شجون الجماهير .. وصادف أن أقام في الحديدة إبان ذاك عاملاً في حراج المغتربين .. فشارك في عديد الأمسيات الشعرية والفعاليات المختلفة التي كان يقيمها فرع اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين هناك .. وقد حصل على عضوية الإتحاد سنة 1992م ..
ثم جمعت بيننا أنا وهو وامزخم أحمد سليمان أمسية شعرية لا تنسى سنة 1994م في قرية النجاري..
بعدها باعدت بيننا السنين بسبب ظروفه هو وبعدي أنا في صنعاء ... فلم نكن نلتقي إلا لماماً .. وبعد منتصف التسعينيات من القرن الماضي كانت أحلام البحاري تتراجع ..بسبب ضغوط المعيشة ..واتساع حجم الأسرة .. وتوقف نمو تجربته الشعرية التي وجدت نفسها حبيسة وعي تقليدي تشكله تيارات هيمنت على الحياة في قريته.. وعلى شديد محبته للبحاري فقد كان أخي إبراهيم - رحمه الله - يأسى في بداية مطلع الألفية كلما سألته عن البحاري ثم يجيبني " وكذا الرسيفر" وهي جملة من قصيدة وعظية سمع البحاري يلقيها في عرس محذراً الناس فيها من القنوات الفضائية ..وكانت مثل هذه المناسبات تقتل الحياة وجمالها وتقتل الإبداع نفسه ..
رغم ذلك بقيت معلق القلب بالبحاري ..وحاولت سنة 2004م طباعة مجموعة شعرية له ضمن مطبوعات صنعاء عاصمة الثقافة العربية ولكن الطموح لم يتحقق .. تلت ذلك سنوات كنت أتذكره في أحاديثي مع امزخم أحمد سليمان الذي صارظاهرة تضج شهرته في المنطقة كلها.. وكلما ذكرناه أشعر بمقدار الظلم الذي تلحقه الظروف بكثير من المبدعين .. لكني ظللت على يقين من أن هذا الشاعر يمكن أن يحدث فارقاً فيما لو ناكشته مثاقفات حقيقية وتجارب متحدية وألقي عليه الضوء كما يجب .. وهذا ما حدث بالفعل ، بل بما يفوق توقعاتي بشكل كبير .. وكان الفضل فيه للعم " جوجل " .
***
بدأ البحاري رحلته الإبداعية مع الشعر الفصيح .. الذي كان يقارفه جنباً إلى جنب مع اشتغاله في الغربة عاملاً في مجال البناء واشتغاله في المقاهي عاملاً ثم مستأجراً .. وكان قد اعتاد طيلة الثمانينيات وجزءً من التسعينيات على الفصيح وعلى تسيده .. لكنه في التسعينيات أيضاً بدأ يلاحظ تغير المزاج العام وميله للشعر الشعبي ولم يكن ذلك إلا بسبب ظاهرة أحمد سليمان التي أقامت الدنيا وشغلت الناس .. ولم يجد البحاري بداً من تجريب نفسه في هذا الباب ..ولبدايته معه قصة ..
بعد خروجه من السعودية سنة 1990م على خلفية أزمة الخليج التي حرمت مئات آلاف اليمنين من الإقامة في السعودية .. جرب البحاري كسب رزقه من أعمال مختلفة في اليمن ..وكالعادة فإن المردود لم يكن يكفي أسرته الكبيرة .. فكان يغامر بالسفر إلى السعودية دون إقامة كما يفعل معظم المغتربين اليمنيين منذ عقدين ونصف .. وفي إحدى مغامراته تلك كان يقيم في مدينة صبيا مع أناس من الزهرة ( وادي مور ) وكانت مسامراته معهم تقود إلى الشعر فيسمعهم مما أبدعه في الفصيح وفي كل مرة كانوا يمتعضون منه بحجة أنهم لا يفهمون هذا الفصيح وإنما الشعر عندهم ما ينتشر بين الناس من شعر أحمد سليمان ..كان ذلك محرجاً للبحاري واعتزازه بفنه لكنه ذات مرة قال لهم : هات اسمعوني من شعر أحمد سليمان كي أكتب لكم على طريقته .. فأسمعوه مطلع قصيدة من أشهر قصائد امزخم وهي قصيدة " خاين " :
يا للأسف يا خسارة
في امقلب مليون حسره
كنت احسبك لي خصوصي
طلعت للكل أجره
وتحت طائلة الإستفزاز كتب البحاري على الفور قصيدته الشعبية الأولى "غشاش " :
قد كنت حبه وعزه
وغشنا اليوم بطره
خلاص يرح له ف حاله
ماشاه ولا طيق ذكره
من غش حبي وخانه
مبغاه ولا نا ف شكره
قلبي عشق خل ثاني
يسبي بحسنه وسحره
زخمو وحالي وعاده
مثل امناصيف بدره
وجهه إذا فك جعده
شفت القمر بين شعره
وعنقه إذا قام يشرب
أمّاي تشوفه بنحره
ونهود بزّن أبو امثوب
مثل امسفرجل بصدره
مثل امحرير امنقى
في املين بطنه وظهره
قامته غصن من بان
وشبرين لا غير خصره
وتحولت القصيدة إلى حدث حدّ أن الشاعر أحمد سليمان وهو في ذروة تألقه أسرّ إلي ذات ليلة في صنعاء بقلقه من دخول البحاري ميدان الشعر الشعبي .. ولعل ما أقلق راعي امكبريت يومها هو دخول البحاري على خط المشفر الذي يُعرف هو بإجادته وبذيوع صيته فيه ..
لكن البحاري ظل يراوح مكانه حتى سنة 2009م حين دخل عوالم العم "جوجل" حيث دشن دخوله بالإشتراك في مجالس عروس السواحل باسم " البحاري " وهو الإسم الذي سيعرف به لاحقاً وسيرتبط بولادته الشعرية الثانية وبشهرته المدوية التي ملأت آفاق المنتديات ومواقع الدردشة في 2009 –2010- 2011م ..قبل أن تنتقل إلى أفق أوسع في موقع التواصل الإجتماعي فيس بوك ..
****
منذ سنة 2009 م بدأ البحاري من خلال جهاز تلفون بائس يخوض غمار المنتديات والمواقع الالكترونية ، معتمداً على موهبته الشعرية الدفاقة يدلي بدلوه في شتى المواضيع ، لكن شيئاً مّا كان ينقص شعره ، كان نتاجاً غزيراً يفتقد إلى العاطفة الحقيقية ، وقتها كان موقع مجالس عروس السواحل أهم موقع تتبرج على صفحاته إبداعات شعراء تهامة ، كان صديقي أحمد الأهدل يقوم منذ سنة 2006م بين الحين والآخر بإعادة نشر بعض المواضيع لي فيه ، خاصة تلك التي تتموضع التراث الشعبي وتاريخ تهامة الثقافي والروحي وهذا كان يجرني مرات عديدة لتصفح ذلك الموقع لأنظر كيف يتم تلقي تلك المواضيع ، عبر كمية الزيارات ونوعية التعليقات ثم لابد من المرور بمساهمات أعضاء تلك المجالس خاصة الشعراء مثل البحاري وأضرابه ، في ذلك الموقع الذي تحول إلى مدرسة أدبية مميزة .
كان البحاري ضمن فرسان مجالس عروس السواحل يدلي بدلوه في كل شاردة وواردة ، ورغم شاعريته الفذة إلاّ أن شيئاً مّا فيها كانت تُغص به نفسي ، و كثيراً ماكنت أقول لأخي مهدي ولصديقي أحمد الأهدل إن ما يكتبه البحاري من شعر يحتاج إلى شوية توابل ، كأسه يجب أن يمازجها بعض الخمر كي تجن وتتجلى ، كان أسفي لانهدار موهبته في إنتاج لا يتطور شغلاً شاغلاً لي كلما مررت بنص من نصوصه على ذلك الموقع .
لم أكن أدري ما الذي ينتظر البحاري ولا هو أيضاً كان يدري أنه على موعد مع أخصب مواسمه الشعرية كلها ، وكما تتشكل سحابة من لا شيىء في صيف تهامي حارق ، أطلت على غير موعد جنّة ، ومَن جنّة هذه ؟ لا أحد يعلم ، إنها فقط شاعرة ، شاعرة مجنونة المأتى غامضة الحضور ، كأنما وجدت لتخلق شاعرية البحاري من جديد ، هكذا وعلى الفور بدأت تناكشه ، وتعاكسه ، بسهولة استدرجته إلى ساحتها وغمرت مكامن الابداع فيه برواء لاعهد له به ، وكردحة في مصب واد خصب استجابت طينته العطشى لسيلها المستفز فراح يضبط إيقاعه على موجاتها العابثة .
ووجد الشاعر الموهوب نفسه في خضم تجربة تتلاحق فيها الأنفاس كأنها فيلم إثارة نُسج على نحو بارع ، كان مجنوناً بشعرها ومشغولاً بسرها ، هي تزعم أنها إحدى بنات عمه وأنها قريبة له:
أنتا قريبي وجاري وكلنا أولاد عم
أنتا قريبي وجاري ودمّنا واحد دم
فيما هو ومعه المدير محمد عبدالله حسن وعشرات الشعراء والمعلقين يبحثون عن هذه المزعومة ، كيف بزغت فجأة ، وكيف عصفت ريحها بمجالس عروس السواحل عصفاً ، وتطايرت الظنون أهي حقيقة أم خيال ؟ شاعرة أم شاعر يتخفى وراء هذا الاسم ؟. اتسعت الهواجس وتنامت الاحتمالات ، ولأن الدوادية تحفل بالشعراء فلم يبق اسم إلا طاله الشك بالتخفي خلف اسمها الغريب ، وأسلوبها الشعري الذي يعتمد على الاثارة والمناكشة مستهدفة الشعراء عامة والبحاري بشكل خاص.
كتب المدير محمد عبد الله حسن منشوراً في عروس السواحل يقول فيه إنه يعرف جنّة حق المعرفة فهي ليست سوى شاعر امزخم أحمد سليمان ، وفندت جنة تخرصات ابن عبد الله حسن قائلة :
يمدير طلع تقديرك غلط ومش في محلّه
تظن إني أحمد أحلف يمين لا والله
لا أمسأله كبريتو حقي ولاني مثله
ولا هو داري عني بشي ولا حد قلّه
يمدير إنته مثقف تجيد فحص العمله
أحمد كما امبحاري كبار في تا الجمله
أني خنانه صغيره تحط وشله وشله
وهن كعبرة سردود محد يوقف قبله
لكنني بتشجيعك يمكن أنور أبله
وبعد بكره تقولن تا لجهده مش لا قلّه
وردّ البحاري على الفور :
من قال إنش قله ذا مور إنتي بكله
امنصراني صيّح منه وقال هذا أبله
ثم ألحق رده بمنشور يطلب من جنة الإسفار عن نفسها وكشف مخبوء سرها ويعلن تحديه لها ولغيرها في مضمار الشعر وتجليات معانيه وتغيب جنة عن المجالس لبعض الوقت ويزادد إصرار البحاري على حضورها معتبراً عدم ردها تجاهلاً له ، لكنها سرعان ماتتحول إلى لاعب عجيب ، لاعب لا يحلو له اللعب إلا على أوتار البحاري وبهذه الطريقة :
بحاري لا زم تعذر من ذا الذي يقدر فيك
أنتا كباحة جابر ياشاعرة شتهاويك
بحاري ني لا تعلم صعبوا عليا جاريك
بحاري ماحد مثلك ولا أحد شيساويك
ماهوش تجاهل للرد ذا عجز الله يعافيك
ني غبت يومين عنكن شغلوا وبينه تكتيك
ولما رجعت لقيتك محركو الدنيا حريك
وجنّيك في جيبك لا يخذلك لا يجافيك
واحنا شعاره صغاروا من مننا شيدانيك
عجزتني ما قلك الله بخيره يجزيك
والله يزيدك شعروا وبالسعادة يمسيك
ويقبل صلاتك وامصوم ويعمرك ويعليك
ومش أخوك ني أختك لو اتحقق يا ديك
جمع ردها بين التقدير العالي لشاعرية البحاري وبين السخرية من إصراره على كونها رجلاً لا امرأة شاعراً وليس شاعرة ، كان عليه أن يرد ولم يكن ليعجزه الرد:
ومن قال انتي دجاجه
انتا لديكو وبن ديك
وجنه ذابس رمزو
ومنك شطاره وتكتيك
عشان بس تجذب به
المعجبين من حوليك
ولا بد ما يأتي يوم
وأكشفك وأرويك
وقد دعا رده جنة إلى رد أكثر استفزازاً وإثارة حيث راحت تدعي المظلمة وتصيح بلؤم واضح فيه قدر كبير من التمثيل:
غيرو عليا غيرو امبحاري يتهددني
ناس الله حيدوا ميقول ، يقول شايكشفني
يا ناس منه منجد ولا كذا يباهزني
بحاري كب امفشله واهدن قليل واسمعني
عجز مديرك فيه والشاخ ميفجعني
وحمد سليمان وقع وشوهان لوتفهمني
اني هنيو جنبك هيا تلفت حدني
كان البحاري واقعاً في حيص بيص يتخبط لا يدري من غريمه ولا أين يرمي شبكته ، توجه هذه المرة صوب مسؤول الحزب الناصري في الداودية -وهو شاب على قدر من الأدب والثقافة – فرماه بالتخفي وراء اسم جنة :
قربت انا أوصل لك ياللي اتسمنّ جنه
ساكن بجنب وّادي وامسول قريبو منه
والناصري هو حزبك ومتكيفوا من دنه
أما البنات من حولي وذا شيىء واثق منه
ما بوش فيهن جهده تكتب بهذه الرنه
فأنت يتكون أحمد يتكون سايق دنه
لم يكن يعلم أنه سيعطي جنة فرصة أكبر للتسلط عليه والامعان في معاكسته ، وبسلاطة منتصر ظافر بددت جنة تخميناته الذاهبة بعيدا :
مانيش لا ناصريه ولا ني امجماعي أحمد
ولا أني مخضرية أسكن بعيده في امحد
ني واحدة من امقرية دور إلى أن تخمد
وخمد البحاري ومعه الشعراء بشار بن برد وابن مور ومحمد حبال وسالم دعمان ومجدي الذهب والمهدلي وغيرهم وغيرهم ، ودارت حميّا سجالاتهم بكؤوس معتقة الشعر يصعب تتبعها كلها هنا ، ومن أجل جنة دخل الشاعر الكبير محمد طاهر الأهدل إلى حومة عروس السواحل وكان دخوله سبباً في معركة طاحنة لأنه كتب على طريقة مساجلات المقصدين التي تعرفها مخادر الزيدية والمنيرة وزبيد وبيت الفقيه وهي مساجلات تذهب كل مذهب في تجريح الآخر والنيل منه على شاكلة النقائض التي عرفها الشعر العربي في العصر الأموي على أيدي الشعراء جرير والفرزدق والخطل وأمثالهم، وهي مساجلات لاعهد للبحاري وأمثاله من شعراء البَرّ ( الريف ) بها
بدأ الأهدلي بالتمهيد :
جنه أنا لي قدره وحاسة لا ترحم
وفي امزخم لي نظره لوكان يصلح للضم
أشم عرف امخمره من حيس حتى أسلم
وتفتهم لي امخطره لو كان خطرة احوم
جنه ، أجي لش بكره ، ناوي لنحوش شعزم
ما عاد عندي صبره حسك تقولي تختم
ناوي أحل الشفرة وفك هذا الطلسم
ثم دخل في الغلط بشكل واضح وهو يقول :
ون شا تجي جي غدره لا تاهبي لش محرم
وامليل عاده ستره تلقي العواذل نوّم
وفي ختام السهرة قررت أن أتكلم
شا قوم واقرا النشره مترجمه للاعجم
جنه بلا تا المهره حيد امجدي يتلثم
وامتيس رجع سخله جنه خريفش ختم
مهما تزيدي امكحله الأهدلي لا يهتم
تغاضت جنة عن تصريحات الاهدل وتلميحاته وعن جرأته التي تجاوزت حدود المسموح به وآثرت أن تحتفي به وتحييه كشاعر كبير فكتبت :
يا مرحباً با لأهدل شرفت يا سيد الناس
فارس ومثله لا حل من فوق عيني والراس
شعره كمثل امنهل منه تطيب الأنفاس
ومثل امجلجل في امحل ومثل طاقات اللاّس
ومثل رعدو جلجل ورج فيّ الإحساس
من أمس واني تقلقل واهب عَبَسْ في دبّاس
اكتب قلييل واخجل واقوم واجلس واحتاس
وفكر اسكت اسهل ولا انفضح بين الناس
الأهدلي من الكمل والرد لازم ينقاس
وميان شقدر أوصل واقرب لذاك النبراس
واني صغيره تحنجل وشعري كله طلفاس
ما قول ني وما أفعل من شايقل لي لا باس
كد قل مجهودي قل أمام فارس دعاس
قلصو كبيرو ودول ومت لي من امطحواس
يارب جنه تكهل ففتح علاها بنسناس
واجعل حروفي تقبل واحجب علاها امبخاس
وخل ابن الأهدل يحيدها مثل الماس
وغضب البحاري غضباً كبيراً من سوء تصرف الأهدل في قصيدته ، وكان غضبه أكبر بسبب نوعية رد جنة القابل لتجاوات الأهدل أو الممالىء له ،لكنه مراعاة لتاريخ الصداقة بينه وبين الأهدل اكتفى بالعتاب والتقريع :
مالك كذا يالأهدل يبن الرجال الكمل
صدر امقصيده حالي والخاتمه مثل امخل
جنه محله مظله وانته بها تتغزل
لوكان جنه عزبه كنا لقولك نقبل
وافرض إذا واحد راح لزوجها يتقلقل
كيف شايكون الموقف ياصاحبي يالأهدل
إن كان يرضيك جوب وقل لنا ما هو الحل
ثم عطف يطالب الأهدل بقبول جنة ولغزها دون كثرة تدقيق ولا تفتيش مقابل ماخلقت في الساحة الشعرية من حراك غير مسبوق :
بخصوص شفرة جنه كم من مهندس حاول
يفك رمز الشفرة عجز ورجع بطل
جنه كلغز محير مدري متى شايحتل
لكن أحسن ما فيه وأرق وأفضل واجمل
إنه جمعنا حوله والمنتدى به شعلل
وخلى رموز الابداع في ساحته تتفاعل
وخلى جميع الأعضاء ردودها ما تبخل
والمعذره يا الطاهر لو بعض شعري قد زل
نا حسب فهمي لشعرك قد قلت قولي الأول
وإن كان فهمي خاطئ لمقصدك لا تزعل
أما جنة التي يدافع عنها البحاري فقد تصرفت على طريقتها إذ صعقته بشعر جديد تدافع فيه عن الأهدل وتبرر له :
سلمت يا بحاري تقولها نته وتفعل
ولي رجا يبن العم ارجوك ني لا تعجل
أني كذا من الأول فهمت قصد الأهدل
ما جاء في خاتمته منه أني لا أخجل
لأن قصده إني أني وياه نتناضل
شعرو على ضوء النت به نلتقي ونتداخل
والنت فيه غفلاتو فيها الغبي يتبهذل
وفيه ظاهر غامض وفيه ظاهر يقبل
وبنت عمك تفصل بين السليم والمعتل
وني شريفه وعرف منهو الشريف الأمثل
والأهدلي من الأطهار حاشا لمثله يجهل
واللي في بالك منه كناية دوماً تحصل
كدن شرحها الأستاذ علوان وفيها فصل
حيد العقيق وتفرج وشوف مللي يحصل
وجن جنون البحاري فقد كان تبرير جنة لتهور الأهدل وخروجه على المعقول فوق قدرته على الاحتمال ، لقد شعر أنها تستهين بثورته من أجلها وتقلل من قيمة غضبه لها فقال :
خوفي عليش يا أختي هو اللي جعلنا تدخل
ماحب بيتش يخرب وأسرتش تتبهذل
وما دام هذا رأيش وانا اللي فهمي أحول
فالشكر لش يا جنه والمعذرة للأهدل
وأقول يا بو وائل أرجوك لعذري تقبل
وآسف وآسف آسف ترفع إليك مدبل
هنا وكعادتها كان لابد لجنة أن تسترضيه فقد كان ملاحظاً كما في النص السابق أن البحاري لم يعد مهموماً باعتبار جنة شاعراً يتخفى خلف الاسم فقد استسلم وسلم ، صار يخاطبها بصيغة " أختي " وليس كما كان يقول " وأنته أخي مش أختي " ، كان عليها أن تسترضية وتضعه حيث يستحق أن يكون كشاعر كبير وكقريب أيضاً ، ولعل النص الذي استرضته به يظل دائماً أقرب نصوصها إلى نفسه وأكثرها تأثيراً فيه :
بالعكس يا بحاري تدخلك ني افخر به
فأنت سيفي ورمحي وامدرع لي وامحربة
واللي كتبته يثبت إنْ لك حميه وعربه
رأيك سديد ومكمل والناس جميع تحكم به
وردي علاك يا سيدي كان الهدف نلطف به
وننخدع له حتى يكون معانا صبه
ويكونا خونا ومنا جنوبنا في جنبه
والشعر يا بحاري بحروا غزيرو غبه
حمال أوجه قالوا والمعنى يمكن قلبه
وأنت أكثر مني في التجربه وعلمك به
وأكثر درايه بصدقه وأكثر درايه بكذبه
متشرعو فيه كم لك ومفلتو في دربه
والعفو منك تكرار ني جاربوك تقبل به
انته الوحيد من تا الناس زعلك يهبلي امكربة
مئات النصوص وعشرات المعارك الشعرية على ساحة عروس السواحل خاضها البحاري وجنة جنباً إلى جنب خلال تلك الأشهر من عام 2010م ، لم نورد منها هنا إلا مجرد طعمة للقارىء إذ يحتاج تتبع طرائفها وروعتها وإعطاء كل المشاركين فيها من شعراء ومعلقين وإدارة حقهم المستحق لهم من الذكر والاشادة والاقتباسات إلى كتاب كامل .
وبدأت شجرة البحاري بالاخضرار تغير نبض شعره ، تبدلت مفرداته فيما جنة تقوده كل يوم إلى لون شعري مختلف ، خرج من فن الوزبة إلى فنون الشامية والشنب والزير والفداية والمطوح والشنجع وبتنوع الألوان تنوعت القوافي واحتشد المعجم ن وبفعل الاثارة التي خلقت مضماراً يتبارى فيه مجموعة من الشعراء المميزين وعشرات المعلقين المتابعين وجد البحاري نفسه بجناحي جبار أميراً على كل شعراء السواحل .
بشغف اكتنزت قصائده بالصور وراح يستحضر معارفه الثقافية المرتكزة أصلا على خبراته بالحياة والبيئة وجيراننا فيها وبالموروث الشعري والحكائي الزاخر بالأمثال والقصص والنوادر ليضمنها جميعاً في شعره على نحو استحضاره للكلمة الشهيرة التي عبر بها مهندس كوري عند نهاية سبعينيات القرن الماضي حين شاهد وادي مور في لمحة عين يقتلع الجسر الذي استنفذ منه جهد سنين فقال " مور هذي مجنونه" .
وبمرور الأيام كان ينضم إلى اللعبة شعراء ومعلقون وتزداد المتابعات ويتسع جمهور الزائرين للموقع كل ليلة ، كان الوضع يشبه في نواح كثيرة منه سيناريوهات حلبة المصارعة الحرة مزيج من الفن والتمثيل والسيناريوهات المقصودة التي ترسمها الإدارة وينساق لها المصارعون بشكل يبدو فيه كل شيىء حقيقياً ، مبهراً ومثيراً يجبر المشاهد على متابعته بجميع جوارحه حتى النهاية .
وبين انشغال البحاري وزملائه الشعراء ومتابعيهم بالسؤال الدائم عن جنة ، وعن سرها العجيب ، تتابعت قصائد البحاري بزخم فاقع وتوهج مذهل لتتشكل على مدار عام تقريباً التجربة الأكثر مفصلية في حياته الشعرية ..
قبل نهاية عام 2010 م اختفت جنة كما ظهرت ، جن جنون البحاري وفقد صوابه وراح هو وأصدقاؤه يبثون النداء تلو النداء والمناشدة تلو المناشدة دون جدوى ، لكن البحاري الذي بقي محروقاً بسر جنة العجيب خرج من التجربة بزاد شعري مهول وشهرة تخطت كل ما كان يخطر بباله وتوطت مكانته شاعراً كبيراً وأستاذاً لعشرات الشعراء ممن تتلمذوا على قصائده وصارت المنتديات ومن بعدها موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك تعج بنتاجاتهم الشعرية .
***
في سنة 2013م استغللت وجود البحاري في صنعاء لمهمة خاصة واستبقيته عندي قرابة شهر أو يزيد كانت تلك فرصة لمعايشته ، وفرصة أيضا لمحاولة صف أكبر قدر من منجزه الشعري لأجل طباعته وبالفعل تم صف مجلد ضخم من تلك التجربة تم عمل نسخة يدوية منها وتقديمها لوزير الثقافة كي يعتمد طباعتها ، في نفس الوقت الذي كنا فيه نحاول ضمه لقائمة الأدباء الذين يقدم لهم صندوق التراث دعماً شهرياً زهيداً بعد أن كنا قد نجحنا سنة 2010م في ضمه إلى قائمة الشعراء الذين يدعمهم اتحاد الادباء بمبلغ شهري زهيد ، لكن الفترة سنة 2013م كانت أسوأ فترات الثقافة ، فوزير الثقافة كان مشغولاً بنزواته وترتيب أوضاعه وأوضاع أشباهه، وفريقه كان مرتبكا فاقدا للتركيز والاخلاص ، وفي مكتب الوزير ضاعت نسخة ديوان البحاري الوحيدة ليضيع بعدها بعام كمبيوتر الأهدل الذي نحتفظ فيه بالديوان ، أمّا محاولة الحصول على دعم شهري للشاعر من صندوق التراث فقد باءت بالفشل ، الشيىء الوحيد الذي حققناه كان توطيد شهرته ومكانته التي خلقها له إبداعه في مواقع التواصل الاجتماعي عبر لقاء تلفزيوني رائع بثته قناة اليمن اليوم وأحدث أصداءً واسعة ، وكان فرحي به أكثر من فرح البحاري نفسه فقد نجحنا على الأقل في الاحتفاظ بالبحاري موثقاً على نحو جيد وبحرفية عالية ، مع أن البحاري عاد من صنعاء دون عائد مادي ودون أن يتحقق مأموله ومأمولنا بطباعة ديوانه .
***
لعل شهرة لبحاري اليوم من خلال صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك وعلاقاته الواسعة بطيف هائل من الأدباء والمعجبين في اليمن وخارجها يفوق كثيراً عشرات الشعراء المكرسين في العاصمة والمتنعمين برعاية المؤسسة الرسمية ، إن عدداً مذهلا من الشعراء والمتلقين والمتابعين على استعداد للتماهي مع البحاري بمنتهى المحبة والدأب على المتابعة حين ينشر صورة له مع شويهاته في المرعى – على سبيل المثال -ويكتب مع الصورة :
برهت نا اليوم أرعى
وباريت هوشي على جنب
ثلاث ضانو وسخلتين
وسخلين بيضو كما امشب
تذكرت عهدالطفوله
وذاك الزمان المحبب
وأيام ماكنت راعي
وبرؤية امهوش أطرب
أيام ماكنت أصحى
من امطل وامهوش يقهب
ومسرعه في أقاها
شتعيش جمعه اتشاغب
أنهض أصلي بسرعه
وسنا مدورامهوش أذهب
وكل واحد سنا امّه
كسرعة امبرق يذهب
وبعد ميعاوش الكل
ولمبطن ملاوشبب
أجهزاماي لمهوش
من شان يروى ويشرب
وكل هذا وبطني
يغروط من امجوع يلهب
لمخدم امبيت أدخل
أبحث بجنب امركب
لبه من امدخن من أمس
معلقه في امهوب
بسقاطي أوبسجدو
أولا بده في ذناجب
أمد وافصع بليدي
وهي اتلامع كما امذهب
واحطها وسط زغني
واسوق هوشي وأذهب
ولوصلت بين امراعي
من أي منتوج أقرب
ومن فصعة امدخن أكشم
ومن ضرع عنزي تحلب
والوك وامجفل يقطر
وريحته قرط أوثب
ومن قربتي أوجمنتي
من سامط اماي أطحب
وارعى لقرب الظهيره
لبجوع أشعرولاغب
واجدع ألاقي قراعي
عيشوخبيزامركب
مازال تحت امغامي
مفطى وبعضه ملبلب
حالي وحامض مشكل
من حب ذخنوومن شب
طحين ست الحبايب
يارب تحفظها يارب
ومكشنوحوت مالح
ولا امشوئ امجلب
اومكشنومن صقيلو
وعلاه ريبواتشارب
تجلس تقرع برغبه
وتنسى ابوامجوع وامتعب
وكم كان نرعى سويه
احنا وكم من مربرب
نبره ونسرح وننشر
ونلهوونضحك ونلعب
قلوب بيضا نقيه
ابليس منها تهيب
تنظرإلى بنت جارك
كأخت من أم من أب
هذا نموذج إليكم
صغته مبسط مقرب
واللي تبقى عليكم
ياكل شاعرمهذب
وياكل قارئ تهامي
ماشكش تيتي اتعجب
وبعد متحيد مابو
تضغط على رمزمعجب
اشتيك حتى بنثرو
من لهجتحنا اتقرب
في الختم صلوجميعا
على المحبب الى الرب
طه شفيع القيامه
يوم الشفاعات تحجب
ولاشك أن تلاميذ البحاري والمتأثرين بتجربته المعترفين بأستاذيته والغارقين في محبته هم أضعاف أضعاف ما لؤلائك المكرسين في العاصمة من محبين وتلاميذ وقراء، لكن المختلف الوحيد هو أن شهرة البحاري وأمثاله لا تنعكس على أوضاعهم الاجتماعية ويسرهم الأسري وهذا يظل منغصاً دائماً لا فكاك منه ، صحيح أن الشهرة تدخل السعادة إلى قلوب البحاري وأمثاله وينتج عنها قدر كبير من التوازن النفسي الذي يخفف وطأة الكد في الحياة والأوجاع الناتجة عن الضنك المعيشي وقلة ذات اليد ، لكن ليس هذا وحده ما يجب أن يترتب على الشهرة ، ففي كل بلاد الدنيا تجلب الشهرة للمبدع حفاوة المؤسسات الرسمية ورعايتها له خاصة في الجوانب المادية التي تجعل سعادة المبدع بالشهرة مقنعة لزوجته وأطفاله والمحيطين به ، وهذا لا يحدث أبداً فالمؤسسات عندنا حكر على قلة قليلة تنعم بكل شيىء ولا تترك للآخرين حتى الفتات .
ويغفل كثير من الناس أن تبعات الشهرة مكلفة فليس كل الناس قادرين على تفهم وضع المبدع وعلى تفهم الفارق الهائل في وضع كوضع البحاري بين شهرته وحالته المعيشية وهم غالباً ما يَصدمهم فقر المبدع الكبير وفراغ جيبه ويتصور لهم ذلك وكأنه عيب شخصي فيه . ناهيك عما يمكن أن يلحق بمبدع كبير كالبحاري حين يزوره على حين غرة ضيف مبهور بشهرته فيجد المبدع الكبير نفسه مشطوراً بين يدين ؛ يد ترفعه إلى السماء وهو يرى نفسه مقصوداً من أمكنة بعيدة بسبب إبداعه ، ويد تهوي به إلى جبّ مظلم لأنه لايملك ما يضيّف به ذلك المحب القادم من مكان بعيد .