لا يزال هذا العالم فرضياً، وما يحدث فيه من ظواهر نسبية لا تلبث أن تتغير، وكل ما تلقيناه من التاريخ أحداث وصلت إلينا كنتائج مسلمة، لا نتتبع خلفياتها وأحداثها كما وقعت ذلك الوقت. ولكن قد يُقرأ التاريخ بطريقة أخرى، ويعاد تركيب أحداثه على ضوء وقائع أهمل الحديث عنها، وقد يكون فضاء الأدب أهم الفضاءات لإعادة تركيب المقروء التاريخي، وهذا ما قام به الكاتب الفرنسي أوبيير برولونجو في روايته قبلة يهوذا.
لماذا أقدم أحد تلامذة "يسوع" الاثني عشر وأكثرهم قرباً منه على خيانته وتسليمه للرومان؟
من كان هذا التلميذ المسمى "يهوذا" وما خلفيات ما أقدم عليه من عمل؟ وقد صورته كتب التاريخ رجلاً خائناً باع معلمه من أجل المال!
حسب التاريخ المنقول إلينا من المسيحية سلم يهوذا الاسخريوطي السيد المسيح للرومان فخلدت قبلته للمسيح في التاريخ كأشهر رمز للخيانة و لٌعن يهوذا على مر السنين كخائن.
أوبير برولونجو أحيا ذكرى يهوذا من جديد و أعاد محاكمته أدبيا لتصحيح الأفكار الخاطئة المتوارثة حوله و إعادة الاعتبار إليه و بالأخص تقديم سيرة مفصلة لحياته و هو أمر يتحاشى المؤرخون الخوض فيه و اقتصر ذكر يهوذا بقبلته الملعونة ،غير عابئين بإيجاد تفسير منطقي لحادثة تاريخية خالدة.
عمد أوبير برولونجي على التأكيد أن كتابه يعتبر رواية أي من باب الخيال الأدبي و هي وسيلة تعتبر في نظره تحايلا على التاريخ فالروايات عرفت في الوعي الانساني كمصدر من مصادر التاريخ تتخذ فيها الأحدات سلطة تقريرية مهمة وعمل أوبير برولونجو لا يخرج عن هذا الاطار .
في رواية قبلة يهوذا للروائي الفرنسي "أوبييربرولونجو" تاريخاً جديداً لتلك الشخصية ، وبعداً جديداً لتلك القبلة التي كانت من أنذل البوادر التاريخية.
استطاع الكاتب أن يقتحم المجتمع اليهودي في أيام حكم الرومان وبث حياة قصصية في صور جامدة قد ذكرها التاريخ عرضاً، وجعل منها محركاً لأحداث العمل الروائي، فقد توصل إلى فرضية من خلال إعادة قراءة التاريخ. في ذاك المحيط الذي عاش فيه يهوذا.
في ظل تلك الأحداث المؤلمة التي عاشها يهوذا، زمن سيطرة الرومان على فلسطين، والتنكيل بالشعب اليهودي، حيث كان يهوذا يشهد تعذيب أولئك الثوار الذين يحاولون أن يتمردوا على السلطة الرومانية واستقلالهم ، فكان حكم الإعدام صلبا لكل من يقع في أيديهم.
وتستمر مقاومة الثوار اليهود بتكوين عصابات سطو مسلحة على قوات الرومان، فكان أن شارك يهوذا بعد قتل أبيه في هذه المقاومة وخاض تدريبات قاسية وطويلة فحاز مكانة مهمة في حركة النضال وأصبح من أهم عناصر المقاومة اليهودية، فتمر السنين وهم يحاولون زلزلة أمن الإمبراطورية الرومانية ، ومحاولة استعادة ملك اليهود، ولكن دون تقدم يُذكر، وفي الوقت نفسه كان أمل الشعب اليهودي في ظهور المخلص الذي سيضع حدا لاستعباد الشعب اليهودي، وإنهاء ذله وهوانه.
اتخذ برولونجو من الوصف السردي الواقعي للشخصيات و الأحداث والأماكن و الأصوا لينقلنا الى أرض فلسطين لنتعايش مع كل الأحداث التي عرفتها المنطقة في القرن الأول ميلادي و التعرف عن قرب الى شخصيات في التاريخ المسيحي و اليهودي تناولتهما الديانتين بشكل سطحي كيهوذا ذاته و بارباس و مريم المجدلية و غيرهم , الرواية استطاعت ايضا و بامتياز أن تعرفنا عن قرب الى تقاليد و عادات يهودية صاحبت الاستعمار الروماني لأرض فلسطين و ما تبعه من انتهاكات و انتفاضات شعبية لشخصيات يهودية يعتبرها اليهود قومية كيهوذا المكابي الذي نجد صداه مؤثرا في انتفاضات رافقت حياة يهوذا و من الجميل ايضا أن الرواية لا تعرض مأساة الشعب اليهودي، بل تجلي الستار عن سبب اعتلال الدين اليهودي الذي يمارسه الكهنة باسم الرب، وهم من كان لهم اليد الكبرى في تعزيز سيطرة الرومان لأرضهم، خوفاً على مصالحهم ، وضمان بقاء الشعب على اعتقاد أنهم من يملكون شفاعة الرب، بتعاليمهم الجوفاء المتزمتة، وهذا ما نشر الطوائف اليهودية المتعددة، بأيدولوجيات مختلفة متناحرة حتى تكونت رؤية جديدة لمفهوم الثورة! الثورة التي تعتق الإنسانية من الأسر والاستعباد ،لا ثورة شعب على آخر بمفهوم الأحقية الأولى في امتلاك الأرض على حساب امتهان شعوب أخرى.
تبدأ الرواية بوصف مرعب لإحدى عمليات الإعدام بالصلب لثوار يهود ضد الرومان و من ضمنهم والد يهوذا و يصف بدقة مشاعر الغضب و الالم التي شعر بها اهالي الضحايا ,تمهيد أراد منه الكاتب ايضاح مدى الحقد المركون في قلب يهوذا تجاه الرومان و الذي سيؤثر على جل أحداث حياته انتهاءً بقبلته الشهيرة للمسيح.
في الجزء الاول من الرواية الذي يقع في اربعة عشر جزءا يحكي فيه الكاتب حياة يهوذا منذ طفولته الغارقة في الفقر و مشاهد القمع و الظلم طفولة بائسة غرزت في وجدانه الرغبة في الثورة و اعادة احياء دولة بني اسرائيل فينخرط في شبابه بحركة عصيان مسلحة تحت قيادة بارباس المؤمن وآمن بأن الدم هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق النصر فتحول يهوذا الى آلة تقتل بدم بارد و لعل مشهد قتل الجابي يصف هذا التحول الجذري في شخصية يهوذا في صفحات 89 و 90" قتل انسان عمل شاق اليس كذلك " " هيا أنت فعلت ما يجب أن تفعل لا أحد يحب ذلك لكنه ضروري", و تصف الرواية أيضا التحول الجسدي ليهوذا من طفل الى رجل فيصف لقاء يهوذا بمريم المجدلية في دار الدعارة و هي المرأة الوحيدة التي صورها دافينشي في لوحته الشهيرة العشاء الأخير و المذكورة كشخصية رئيسية في رواية دان بروان و التي ستلتقي فيما بعد بالمسيح , بعد قمع الثورة من طرف الرومان يرحل يهوذا الى القدس هذه المرة في مهمة تجسسية تجبره أن ينخرط في الحياة العامة فيكون أسرة و ينجب أطفال فتستكين حياته لفترة لكن جذوة الثورة تستيقظ مجددا بعد حرق أسرته من طرف جنود رومان فيلتحق مجددا ببراباس و حركته و يحاولون ايجاد مظهر جديد للثورة عن طريق البحث عن شخص كاريزماتي يملك جبلة الخطاب و الاقناع باسم الله فيرحل يهوذا و هو في الأربعين من عمره بحثا عن هذا الشخص " سأمضي لأكتشف هذا الطائر المنشود " صفحة 238 فيلتقي بيوحنا المعمداني الذي سرعان ما يتعرف عن طريقه الى المسيح فيكون اللقاء الذي غير حياة الاثنين.
الجزء الثاني المكون من ثماني أجزاء يسرد لقاء يهوذا بيسوع و انضمامه الى تلاميذه و يرافقه في رحلاته و يؤكد الكاتب في الرواية على البعد الانساني للمسيح من خلال التشكيك في معجزاته كمعجزة تحويل الماء الى خمر و شفاء الناس بالأعشاب و التركيز على عائلته و إخوانه، في تغييب واضح لمريم العذراء، فلا نجد لها حضور مؤثر في هذه الرواية تظهر إنسانية المسيح أيضا في طريقة أكله و نومه وخوفه و التشكيك أحيانا في قدراته , تحدث بين الاثنين مشادات دائمة تجلت في قوة الحوار بينهما حول الطريق المثلى لمواجهة الرومان في حين كان يهوذا يدعو المسيح للثورة بالسلاح كان يسوع يدعو الى تطهير النفس بالدعوة الخطابية الرومانسية "ستكونون أحرارا متى عرفتم أن تحبوا " صفحة 373و مما زاد من حدة غضب يهوذا حسب الكاتب هو ذلك التناقض الذي رآه في المسيح من كرهه للرومان و محاباة اولياءهم "ماذا ؟؟أنت تلبي دعوة هذا الرجل الذي يجوع الناس ؟ هل فقدت رشدك؟ هذا الرجل يتعاون مع الرومان انه يسلب شعبنا لأجلهم انه خائن " صفحة 300و زهده و تبذيره "كيف تريد أن أفهمك ؟أنت قلت أعط كل شيء للفقراء و رضيت أن يسفح على قدميك عطر يساوي ثلاثمئة دينار ؟" صفحة 407 و من طهره و معاشرته لمريم المجدلية , يرحل الاثنين الى القدس و يستبشر يهوذا خيرا في ثورة غاضبة ليسوع في المعبد بعد ان يقوم بقلب طاولة للصيرفة صارخا " بيت ابي لم يصنع من أجل التجارة" صفحة 376 و يحدث أن يقبض على "باراباس" فيتفق أعضاء الحركة على الصاق التهمة بشخص آخر فيعتقد يهوذا أن الوسيلة الوحيدة لإجبار يسوع على الانتفاضة أن يسلمه الى الرومان مما قد يولد لديه سخط عارم يدفعه الى دعوة الجميع للثورة لكن الأمور لم تسر كما أراد يهوذا فبعد أن سلم يسوع الى الرومان بأشهر قبلة في التاريخ يعتبر يسوع أن الأمر مقدر له أن يحدث كما حدث و انه مقدر له أن يصلب "ابي أرسلني لأكون ذبيحة تمحو خطاياكم " صفحة 406 يصلب يسوع و ينتحر يهوذا محاولا مشاطرة المسيح صديقه المصير .
وفي المقابل كان ظهور ثورة المسيح التي تسعى لخلاص البشرية جمعاء من التسلط والاستعباد، وإثبات حق كل إنسان في الحياة الكريمة.
كشفت الرواية زيف الكهنة وتحايلهم باسم الرب في معاملة الناس وسلبهم أموالهم، وقد كان لهم الدور الرئيسي في اضطهاد الشعب اليهودي، حيث شكلوا غطاء لسيطرة الرومان وقسوتهم. لخدمة مصالحهم الدنيوية. وإصدار تشريعات تقيد بها الشعب اليهودي لامتهان كرامتهم، وجعلهم في الأسر دائما وسلب الفرد إرادته واختيار مسار حياته. ظهور الطوائف العديدة لكل منها فكر واتجاه يخدم وجودها وسيطرتها على الآخرين، ورفض أي إصلاح يخدم الناس.
" الرؤية الجديدة في معجزات المسيح"
استطاع الكاتب أن يضفي الرؤية الحديثة العلمية للنفس الإنسانية في سر تسخير الله المسيح لأولئك المرضى، لإخراجهم من أوهام يؤمنون بها، من جراء تحريف الكهان لحقيقة الدين الإلهي حين يؤمن الإنسان إيماناً قوياً بقدرته المرتبطة بالله هكذا صورت الرواية المسيح، ذلك الإنسان الذي أيده الله بالمعرفة الحقة لسر النفس البشرية، فعندما يقول المسيح: إن الله لا يريد أن يسحق الناس بقدرته، فمن المهين لهم أن يمنع عنهم حق الاختيار حتى النهاية.
وفيها رؤية حقيقية للنفس البشرية في أسلوب علاج المسيح للمرضى، وهي "الإرادة والإيمان" ما يجعلان القدرة الإلهية تتحقق في علاج الأمراض.
يقول: أنتم من يمتلكون هذه القدرة. فهم باعتقادهم أنهم عاجزون، لا يملكون القدرة، فمن أتاهم بطبيعة مغايرة لطبيعتهم سيؤمنون به، ولكنه يقول لهم: أنتم تضلون جميعاً، إذ تعتقدون أنني قادر أن أخالف قواعد الخلق، ولا تعجبون أمام رؤية كائن يولد، وتطربون عندما أعيد الحياة لميت، وتصيحون أمام الملأ أنني غذيت خمسة آلاف شخص بخمسة أرغفة، ولكنكم تشهدون دون ارتعاش كيف تنبت الحبة ويطلع النبات، ما هي المعجزة؟ .... العالم هو المعجزة الحقيقة. ن العادة قتلت الانبهار عندكم، فبماذا يمكن لي أن أستعين بعد لأجل إحيائه! ويمضي الكاتب لإبراز فلسفة جديدة لتعاليم المسيح، والدين الحقيقي الذي يجعل من الثورة سبيلا لتحرير الإنسان.فالاستعباد والسيطرة لهذا الشعب لم يكن إلا من الكذب والادعاء المزيف للتعاليم التي نحت منحى صوري، و اهتمت بالتفاصيل والقشور التي أضافها مدعوا الدين، والإغراق في الجدل الذي هو أبعدهم عن الجوهر الحقيقي.صور وصفية دقيقة، وحركية الشخصيات تضفي أبعادا لإبراز الأحداث، بعث الحياة في شخصيات لم يذكرها التاريخ، وذكرها الكاتب لتجعل منه صياغة تهدم النظرة الموروثة عن السيد المسيح، ومفهوم الديانات.الشخصيتان المتقابلة في مفهوم الثورة هي يسوع، ويهوذا، رغم أن ما جمعهم الهدف نفسه إلا أن كل منهما كانت له طريقته ورؤيته في تنفيذ خطة هذه الثورة، اختلاف في مفهوم النضال وغايته ، أراد يسوع الحب والسلام للإنسانية، بينما كان يهوذا يطلبها لليهود فقط، أرادها يسوع التحاق بالله وتعويض عن عالم البشر، وأرادها يهوذا سيطرة وملكا على عالم البشر.لم يدرك يهوذا حتى اللحظة الأخيرة التي أسلم فيها رفيقه ومعلمه، ما كان يدور في نفسه، لكي يدرك سر ما جاء به معلمه، فلم يكن أمامه سوى الثورة المسلحة، مخرجا لشعبه.الرواية قدمت تحليلاً مخالفا لقبلة يهوذا ، التي كانت أشد غموضاً والتباساً. لم نفهمها إلا بعد أن عاقب يهوذا نفسه بالانتحار تكفيراً عن خطيئته وتقديمه ليسوع بدلا عن بارباس قائد الثورة المسلحة، حين اعتقله الرومان، وهو معلمه الأول في مرحلته النضالية، كان يتوقع أن يخلصه من الأسر وحكم الإعدام بإلصاق التهمة على يسوع، ومن ثم تنفيذ خطة لخلاصه هو الآخر. إلا أن الظروف نحت منحى آخر، فكان أن صلب المسيح بتلك الطريقة البشعة، وخلف دمارا هائلا في نفسية يهوذا الذي اختار أن ينهي حياته بنفس الطريقة. الرواية تفتح قراءة مغايرة للتاريخ ، واحتمالات جديدة لأي باحث في تاريخ الشعوب