حوار مع الروائي الروسي فلاديمير سوركين
2020/07/18 - الساعة 02:28 مساءاً
ترجمة وتقديم لطفية الدليمي
عطالة الماضي السوفييتي و ثقله الطاغي يثبتان كل يوم بانهما عصيان على أي تغيير..
ليس على الكاتب ان يقدم أجوبة بل عليه ان يطرح الأسئلة الكبيرة حسب..
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حفر الألمان حفرة ضخمة و طمروا كل الماضي فيها ثم بلطوها بالاسفلت..
فلاديمير سوروكين : كاتب رواية و دراما ما بعد حداثي روسي ورسام ايضا ، يعد الأكثر شعبية في الأدب الروسي اليوم . ولد سوروكين في عام 1955 قرب موسكو و اكمل دراسته العالية في معهد عال للنفط و الغاز و تخرج منه مهندسا عام 1977 ، و بعد تخرجه عمل لمدة عام واحد في مجلة " Shift " و لكن تم ابعاده عن المجلة لرفضه ان يكون عضوا في الكومسومول السوفييتي . شارك سوروكين في السبعينات في عدد من المعارض و صمم و وضع الرسوم الداخلية لأكثر من خمسين كتابا ، و تطورت امكاناته الكتابية وسط الكتاب و الرسامين المنزوين في قاع المشهد الثقافي في موسكو خلال الثمانينات . نشرت له 6 قصص قصيرة في احدى المجلات الباريسية عام 1985 و في السنة ذاتها نشرت له رواية " الطابور The Queue " عن دار نشر " سينتاكس Syntax " الفرنسية .
ترجمت أعماله الى اغلب اللغات الرئيسية في العالم و ساهمت دور نشر عالمية مرموقة في نشر اعماله بضمنها دار نشر " غاليمار Gallimard " الفرنسية . تنتمي روايات سوروكين في العموم الى ما يسمى روايات " الواقع المرير Dystopia" ، و من أهم رواياته : " يوم أوبريتكنيك Day of the Opritechnik " التي تتحدث عن قيصر الكرملين الجديد و عن جدار روسيا العظيم الذي يعزل روسيا عن جيرانها .
هذه مقاطع منتخبة من حوار مع سوروكين أدارته ( كاترين شيميرينسكي ) و ظهر على موقع " BOBLOG " في 9 اب 2013 ، المحاورة كاترين روسية تقيم في كوبنهاغن - الدنمارك و هي حاصلة على الماجستير من جامعة كولومبيا الأمريكية حيث درست الانثروبولوجيا الاجتماعية و الكتابة الإبداعية و هذا مما يعطي الحوار نكهة محببة كون الروائي و محاورته يشتركان في حب الكتابة الإبداعية و يعرفان الكثير عن خفاياها المدهشة ويمتاز الحوار بسخرية مرة وبسالة قول ونرجسية مقبولة.
القسم الثاني من الحوار
× سمعت الناس يتحدثون كثيرا عن أوربا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية و كونها حقبة تأريخية مثالية أصطبغت بغياب الحروب و تثمين فكرة التكامل الإقليمي الأوربي ، في حين ان ما نشهده اليوم هو موجة من الاستقطاب المتنامي ترافق مع عودة أيديولوجيات القمصان البنية ( إشارة الى طغيان فكر اليمين الجديد New Right الذي ينادي جناح متطرف منه بإحياء التقاليد النازية و الفاشية ، المترجمة ) . هل يحصل أمر مماثل في روسيا اليوم ؟
• روسيا ، بخلاف المانيا ، لم تدفن ماضيها ، فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية حفر الألمان حفرة ضخمة و طمروا كل شيء فيها ثم بلطوها بالاسفلت !! . بنى الألمان عالما جديدا تماما بعد حقبة الحرب و المانيا اليوم هي الرجل الأقوى في اوربا و الأكثر ديمقراطية فيها ، و حتى ناشر أعمالي الفرنسي يقول هذا ،،، تصوروا أن ناشري الفرنسي يقول : المانيا أكثر بلدان اوربا ديمقراطية !! تلك إشارة رمزية لا ينبغي اغفالها ابدا . روسيا - على العكس من المانيا – لم تفعل هذا و قد كان لنا فرصة في عهد يلتسين : أعني إبعاد رجال المخابرات السوفييتية KGB و أعضاء الحزب العتيدين عن الجهاز الحكومي لكننا لم نفعل وتشبثوا هم بكل قوة بالسلطة ، وهذا هو السبب لبقاء روسيا على حالها و هاهو الحرس القديم يعود للامساك بزمام الأمور فيها . اذن ما الذي سيحصل مما نتوقعه ؟ من جانب نرى كثرة من الشباب الروسي يسافرون الى الغرب و يرون كيف يعيش الناس هناك و من جانب اخر هناك أناس مشبعون بالنزعة السوفييتية الطاغية Homo Sovjecticus و هم من يعتمد عليهم الحكم الروسي القائم اليوم . أن عطالة الماضي السوفييتي و ثقله الطاغي يثبتان كل يوم بانهما عصيان على أي تغيير .
× يسرد أورويل في عمله " لماذا اكتب ؟ " أربعة دوافع للكتابة : حب الذات الخالص ، الحماسة الجمالية ، الدافع التأريخي ، الغرض السياسي . أي من هذه الدوافع تراه صالحا لوصف دافعك أنت ؟
• ( ضحكة ) لطالما كان أورويل صحافيا في أعماقه . أقول ثمة دافع خاص للكتابة يكمن في جمال العملية الأدبية ، فلو اخذنا نابوكوف مثالا أو كافكا او جويس فقد كانوا جميعا مفتونين بالأدب و كتبوا أعمالا تعلم منها الناس الكثير و ربما كان لها تأثير أعظم من تأثير النقد الاجتماعي و الصحافة و حتى الأدب القائم على الاحتجاج و المعارضة المباشرة . ثمة دافع آخر للكتابة : التساؤل ، فكم أرغب في كل كتاب يكتب أن يقوم و يتأسس على سؤال محدد و أحسب أن ليس على الكاتب أن يقدم أجوبة بل ان يطرح الأسئلة ،،، الأسئلة الكبيرة و حسب .
× في عمله المعنون " الاضطهاد و فن الكتابة " يتفحص الفيلسوف السياسي ( ليو شتراوس ) موضوعة لجوء الفلاسفة القروسطيين الى تقنيات كتابية محددة لاضفاء سمة من الضبابية و التعتيم على آرائهم الإشكالية التي كان يمكن ان تضعهم في دائرة خطر مميت ، و هذا ماعناه شتراوس بمفهوم " الكتابة بين السطور " و قد تحدثت انت أيضا كيف كنت تجلس في محطات المترو في موسكو تقرأ رواية اورويل " 1984 " التي كانت ممنوعة من التداول آنذاك . هل لا زلت ترى في " الكتابة بين السطور " أمرا مغريا لك ؟
• هذا سؤال خطير للغاية و لو وجه هذا السؤال لي قبل عشرين سنة لاتفقت مع ما قاله شتراوس بالكامل لكنني أفضل اليوم الشفافية الكاملة : فكلما كنت شفافا في طرح اسئلتك كان عملك أفضل ،،، بكلمات أخرى : أفضل اليوم رؤية فراغ بين السطور فحسب !! و هذا هو ما فعلته في روايتي " العاصفة الثلجية " ، و كمثال ليس في استطاعتي اليوم قراءة ( أمبرتو ايكو ) اذا ما أردنا الحديث عن العلاقة بين الفلسفة و الأدب لأنني لم أعد مهتما بهرمينوطيقا العمل الادبي بقدر اهتمامي بنوعية العالم الذي يخلقه هذا العمل .
× بالعودة الى فكرة " الكتابة بين السطور " : أ ليست هي ما فعلته انت بالضبط في عملك " يوم أوبريتكنيك " ؟
• نعم بالطبع ، بالتأكيد كنت أكتب بين السطور ( يشير سوروكين الى فجوة كبيرة باستخدام يديه ) . كان ثمة غرف كاملة بين السطور !! ( يضحك ) .
× بالنسبة الى شتراوس فإن ستراتيجية " الكتابة بين السطور " ضرورية في المجتمعات غير الليبرالية . ماذا عن المجتمعات الليبرالية ؟
• ستراتيجية " الكتابة بين السطور " كانت شائعة خلال الحقبة السوفييتية بسبب الرقابة الصارمة المفروضة آنذاك حيث أنتهى الكتاب الى أن يقوموا بتشفير كل ما يكتبون الى حد صارت معه فكرة التشفير نوعا من " الذهان " الجمعي الذي يسم كل الطبقة المثقفة ( الانتلجنسيا ) ، و هذا هو السبب الذي يجعلني أقلل من شأن " الكتابة بين السطور " في المجتمعات الليبرالية بعد ان انتفت الحاجة لها تماما . ينبغي للكاتب دوما ان يعلم ما الذي ينبغي قوله و ان يكون قادرا على قوله بوضوح .
× هل تشعر انك قادر على التعبير عما تريد قوله هذه الأيام ؟
• ( تنهيدة عميقة يطلقها سوروكين ) في عملي " يوم أوبريتكنيك " سألت السؤال التالي : لماذا تعتمد السلطات الروسية الحاكمة على كل هذا القدر من العنف ؟ هذا سؤال أراه غاية في الأهمية . نشأت في مجتمع شمولي حيث كان كل شيء مشبعا بالعنف و كنت أرى مظاهر العنف في كل مكان . كان العنف الفيزيائي محض مظهر واحد من مظاهر العنف و لكنه لم يكن بالعنف الأكثر اثارة للذعر ( يشير سوروكين الى رأسه !! ) .
× من بين كل الأمكنة في العالم التي كان يمكن لك ان تستقر فيها ، لماذا اخترت برلين بالتحديد ؟
• المرة الأولى التي زرت فيها برلين كانت عام 1988 حيث ذهبت لبرلين و أحببتها كثيرا ( ضحكة ) . برلين مدينة ليست بالصغيرة و لا هي مكتظة بالناس و هي ديمقراطية الى درجة لا تكاد تصدق .
× سؤال أخير : هل يمكنك ان تخبرنا شيئا عن طريقتك في العمل ؟
• لو أن ( نابوكوف ) كان قد سؤل سؤالا مثل هذا لطلب الى محاوره الانصراف فورا !! . أرجو أن نفهم أن عملية الكتابة عمل معقد و مركب ، و مع كل ذلك دعني اخبرك شيئا عن كيفية الهامي لكتابة روايتي " يوم أوبريتكنيك " : لدي كلب صغير رائع من نوع Whippet ( كلب يستخدم في السباق ، المترجمة ) و هو كلب رشيق للغاية ، و حصل ذات مرة أنني كنت في السوق و رأيت عظمة بقر كبيرة ملطخة بالدم و فكرت انني سأتحايل على كلبي و أشتري له هذه العظمة الكبيرة التي لا تناسبه على الاطلاق !! و انتظرت بشغف لأرى كيف ستكون ردة فعله معها ، و في طريق عودتي الى المنزل رميت العظمة في باحة امام المنزل مغطاة بالثلج و لدهشتي رأيت الكلب يؤدي نوعا من الرقصة الطقوسية السحرية حولها : لم تكن رقصة جميلة فحسب بل كانت تنطوي على إشارة لتهديد ما ، و في ذلك اليوم بالتحديد جلست الى طاولتي و بدأت كتابة روايتي " يوم أوبريتكنيك " ، و تسألينني بعد هذا عن توضيح مناسب لما فعلت ؟ !! .
متعلقات