انتحال صفة القارئ

 

 

محمد العباس

روايات نجيب محفوظ المعروضة بصرياً على الشاشة ليست هي تماماً تلك المسرودة لغوياً على الورق، فهي مقروءة بوجهة نظر كاتب السيناريو، ورؤية المخرج، وتصورات الممثلين المختلفة للشخصيات والأحداث والفضاءات المكانية، ومن يكتفي بمشاهدتها على الشاشة لا يعني على الإطلاق أنه على دراية من الوجهة الفنية بالعبارة المحفوظية، ومن الوجهة الموضوعية قد لا يكون ملماً بثيماته، يتساوى في هذا المشاهد المثقف، الذي يعاند فرض قراءة الرواية، والمشاهد الأمي الذي يتلقى الرواية المؤفلمة في حدها الحكائي، حيث يفترض أن يتجاوز طقس قراءة الرواية – أي رواية – سطحها النصي، وبنيتها الشكلية، إلى ما تختزنه بناها الدلالية ونصها التحتي.

هذه الإشكالية لا تتعلق فقط بأعمال نجيب محفوظ، بل بكل الإرث الروائي العربي والعالمي، الذي تحول إلى أعمال درامية وسينمائية، حيث يعتقد من شاهد أعمالاً مقتبسة من الشكسبيريات أو التولستويات أو الدوستوفيسكيات وغيرها من الخوالد الأدبية، أنه صار على صلة بمزاج وخبايا ودلالات وتاريخ تلك الروايات والمسرحيات والقصص، وهو وهم يطرح مفهوم القراءة بقوة، ليس بالنسبة للمشاهد العادي الذي لا يأبه لمرجعية تلك الأعمال الفنية المأخوذة عن روائع أدبية، بل عند المشاهد المثقف الذي يضع نفسه في موقع القارئ العارف بالنسيج الفني والموضوعي لتلك الروايات، حيث يوهم نفسه بأنه قد قرأها بالفعل، وفي حقيقة الأمر لم يقاربها من زاوية القارئ، بل من منصة المتفرج.

هذا الصنف المدّعي من القراء ليس جديداً على الحالة الثقافية في التاريخ، فهو يأخذ أشكالاً متعددة ومتغيرة بمقتضى تغيّر الزمن والأدوات والوسائل ومقام المثاقفة، فهو يشبه إلى حد كبير ما يصطلح عليه بـ(مثقف السماع)، أي ذلك الكائن الذي يجلس في مجلس العلماء المتكلمين العارفين، فيلتقط ما تساقط من عبارات وأفكار وحكم ليحدّث بها في مجلس آخر، وكأنها أفكاره التي استخلصها بموجب مقروئيته، وهذا التقليد بشكله الرسمي كان معروفاً في مجالس السلاطين، الذين يقربون إليهم مجموعة من القراء ليثقفوهم بشكل سماعي، وهو تقليد ينتشر اليوم بكثافة وفجاجة في أوساط الساسة ورجال الأعمال، الذين يستأجرون النخب المثقفة ليلخصوا لهم أكثر الكتب إثارة، وليلقنوهم عناوين اللحظة بشكل ميّسر بحيث يتمكن أولئك من تصدّر المجالس بصفتهم قراء من الطراز الرفيع، أي من قوارض الكتب.

وفي المقابل تتفشى ظاهرة المثقف المتطفل الذي يجيد تمثيل دور القارئ النهم، من خلال تجواله بين المنتديات والصالونات والملتقيات من أجل التقاط القضايا المثيرة للاهتمام، واستعارة بعض العبارات، وإصراره الدائم على إبداء ملاحظاته ومداخلاته لتأكيد وجوده كقارئ مطّلع، من خلال تسلُّحه بمنظومة من الأفكار والجمل المستهلكة، التي تصلح لكل مقام ومناسبة، وترصيع ثرثرته بكم هائل من الأسماء المتداولة والعناوين البائتة، منتشياً بوجوده الدائم بين المثقفين، ومنتحلاً صفة القارئ، وهذا النمط من مدّعي القراءة لا يجد له قبولاً إلا في تلك الفضاءات التي لا تتطلب المعرفة الجدية، ولا تكشف عن المنسوب أو العمق القرائي، يساعده على ذلك الوهم امتلاء تلك الفضاءات بأشباهه من منتحلي مزايا القارئ.

ومع صعود عصر الإنترنت تراجعت صورة القارئ لتحل محلها صورة (المتصحّف)، الذي يقلّب المواقع الإلكترونية على عجالة بدون أن يمارس فعل القراءة المستوجب، وبحيلة نفسية ساطية يتوهم أنه قرأ مضامين كل تلك العناوين النيئة، حيث يقضي المتصحّف ساعات طويلة قبالة شاشة الكمبيوتر وهو ينتقل من موضوع إلى آخر، إلى أن يصاب بتخمة معلوماتية مبعثرة ومشوشة، لا تستقيم في نسق فكري، ولا تستقر في سياق وجداني، ومع إدمان التصفّح اليومي، يصل إلى قناعة بأن هذا الشكل من المطالعة الانتقائية المستعجلة هو الشكل الأمثل للقراءة، وأنه ليس بعيداً عن مفهوم القارئ بمعناه العصري، حيث الأجهزة الإلكترونية الذكية، واستقبال الأخبار والمعلومات والتحليلات بشكل لحظي، لدرجة أنه يتجرأ على نقل مقتطفات من مطالعاته وطرحها في مواقع التواصل الاجتماعي لتأكيد البعد التفاعلي في شخصيته كقارئ، بحيث يتحول إلى قارئ (اقتباسي ) يستل من كل حقول المعرفة والأدب ما يصلح لطرحه كحصاد شخصي لقراءاته، وهي مجرد مقولات جاهزة يعاد تدويرها من دون أي جهد قرائي.

كل تلك الصور من الزيف القرائي لا تصمد أمام متطلبات مفهوم القارئ، فهي مجرد حيل استعراضية تشكلّن الفرد في صورة القارئ، ولكنها لا تهبه متعة ومزايا القراءة، لأن القراءة في المقام الأول عملية إنتاج، ليس للأفكار والتجنيحات الخيالية وحسب، بل للذات، والذات القارئة لا تنبني إلا بالتماس المباشر مع متون الكتب، وإذا كانت مطالعة الصحف ومشاهدة السينما وتصفّح الإنترنت ومنادمة المثقفين تولد المتعة وتفتح باباً للمعرفة، إلا أنها لا تساوي فعل القراءة، والحديث هنا ليس من منطلق المفاضلة في الممارسات الثقافية، إنما من أجل التفريق ما بين القارئ ومنتحلي صفته، لأن العضلة المعرفية الوجدانية التي تربيها القراءة لها مواصفات مغايرة عن تلك التي تؤسسها الأداءات الأخرى، وهو كلام يعني المثقف في المقام الأول، لا ذلك الطارئ على حقل الثقافة.

ومن هذا المنطلق لا يمكن القبول بوجهة نظر ناقد أو روائي اكتفى بمشاهدة رواية عبر الشاشة، ولم يكلف نفسه عناء قراءتها، ومن العبث محاورة وجيه في صالون أدبي فاخر استعاض عن قراءة الكتاب بمطالعة ملخص له أو استقى عناوينه من جلسة مرفهة مع أحد مستشاريه، ولا يمكن التعامل مع متصفحي الإنترنت كقراء واعتماد ما يطرحونه كنتاج لذوات مكتملة البناء من الوجهة المعرفية والأدبية، لأن القارئ ركيزة من ركائز المشهد الثقافي، وأي إخلال بمفهومه يعني إرباك مفهوم الثقافة ذاتها، وذلك يعني ويحتّم ضبط هذا المفهوم داخل عملية الإنتاج الثقافي.

متعلقات