"حديقة على نهر العاصي" وفي ظل نواعير حماة لموريس باريس " حكاية حب مستحيل أم درس في الجيوستراتيجية يعبر الأزمنة؟
 
إبراهيم العريس  باحث وكاتب 
 

هو أمير من مقاتلي الحروب الصليبية يدعى غيّوم مثل كثير من الصليبيين في ذلك الحين. وهي أميرة وزوجة الحاكم المسلم لبلدة القلعة السورية تدعى أوريانتي، أي "شرقية" باللاتينية. والمكان سوريا أيام الحروب الصليبية. والحبكة بكل بساطة علاقة حب بين غيّوم وأوريانتي... غير أن ما يحدثنا عنه مؤلف هذه الرواية يبدو في حقيقة أمره أقل بساطة من ذلك بكثير. فهو إذ يبدأ حكايته من صيف عام 1914 فيما كان العالم كله يعيش إرهاصات تبدّلات إستراتيجية كبرى ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط التي كانت سوريا نقطة المركز فيها حينها، من الواضح أن الإطار التاريخي كان هو النقطة الجوهرية في روايته، بحيث إن حكاية الحب التي تدور في "حديقة على نهر العاصي" لا تعود سوى المبرر الحكائي لسرد سياسي بالغ الأهمية. ونحن كي ندرك هذا السرد وأهميته اليوم والمنطقة المعنية تعيش قدراً كبيراً من التغيرات الإستراتيجية، قد يكون علينا أن نضع في حسباننا التاريخ الذي اختاره الكاتب لروايته، وتاريخ كتابته لها مع أخذنا في الاعتبار التاريخ الحديث نسبياً الذي ينطلق منه في حكايته.

وصية سياسية لأديب "قومجيّ"

أما الكاتب، فهو موريس بارّيس الذي إذ جعل من هذه الرواية خاتمة كتاباته الأدبية قبل رحيله أواخر عام 1923، عرف كيف يجعل منها وصية سياسية مباغتة تكاد تناقض كلّ الأفكار التي عُرف بها كواحد من زعماء الفكر اليميني المتعنت في فرنسا، كما سنرى بعد قليل. فهنا في هذه الرواية يبدو واضحاً أن بارّيس مجّد الشرق وأعطى مكانة رفيعة للمرأة وتغنى بالتعايش بين الشعوب وقدّم صورة للمسلمين تتناقض مع الصورة التي كانت لهم حينها. وكأن الكاتب انتظر سنواته الأخيرة قبل أن يلقي وسط المجتمع الفرنسي قنبلة حارقة. ومن هنا فيما كان من المتوقَّع حين ظهر الكتاب، وكما جرت العادة، أن يُهاجَم الكاتب من قبل اليسار هوجم من قبل اليمين الذي نادى: يا للخيانة!

المهم أن حكاية "حديقة على نهر العاصي" تبدأ في ظل نواعير مدينة حماة بلقاء بين أنا/ آخر للكاتب نفسه ورجل إيرلندي – يفترض البعض أنه أوسكار وايلد- يخبر الكاتب عن امتلاكه مخطوطاً بالعربية يحمل حكاية حدثت قبل قرون عديدة يوم كان الصليبيون مسيطرين هنا ويشتغلون على تأليب الأقليات السكانية في مشروعهم الدامج للمنطقة في هيمنة أوروبية واسعة. والحكاية هي ما يرويه ذلك المخطوط عن رحلة يقوم بها الأمير غيّوم إلى "القلعة" مستضافاً لدى أميرها. وهناك ما إن يلتقي غيّوم بزوجة الأمير حتى يصاب بسهم هواها. لكن العائق في وجه حكاية الحب لن يكون الأمير المسلم ولا التقليد ولا الشهامة، بل التفاوت في الشخصية بين أوريانت القوية والذكية اللامعة، وغيّوم الذي يضعفه الحب إلى درجة لا تصدّق.

تلكم هي الحكاية. ولعلهم كانوا على حق أولئك الباحثين والنقاد الذين قرأوا الكتاب كنصّ سياسي حضاري إستراتيجي بأكثر كثيراً مما قرأوه كحكاية غرام تدور تفاصيلها في تلك الحدائق الرائعة الواقعة على نهر العاصي، وكأنها حكاية سياحية من نوع كان فرنسيون يكتبونه بكثرة حينها. ومرة أخرى تبدو الغرابة هنا من كون موريس بارّيس هو الكاتب دون غيره.

الحكاية النزيهة لكاتب متقلّب

«من لا يكون يسارياً قبل العشرين يكون بلا قلب، ومن يبقى يسارياً بعد الثلاثين يكون بلا عقل» هذه العبارة التي تنقل عادة عن موريس بارّيس، تُستخدم كنوع من التبرير لتوجه الشبيبة، في فرنسا ولكن في العالم كله كذلك، في اتجاه الأفكار اليسارية. والمقصود باليسارية هنا، نوع من التمرّد على المجتمع وقيمه المتخلفة بحثاً عن مثل عليا وعن تجاوز سياسي واجتماعي. ولكن الطريف أن صاحب هذه الجملة، لم يتجه هو نفسه إلى اليسار، لا حين كان في العشرين من عمره، ولا بعد ذلك. فهو عند بداياته كان صاحب فكر يميني - كاثوليكي محافظ. وصاحب نزعة قومية (بل شوفينية) فرنسية جعلته واحداً من الآباء الشرعيين لليمين الفرنسي المتطرف. ولكن، إضافة إلى ذلك، كان موريس بارّيس كاتباً كبيراً. حتى وإن كان الكثيرون يميلون إلى نسيان ذلك اليوم، غير ذاكرين عن صاحب «الجبل الملهم» و«حديقة على نهر العاصي» سوى أنه شريك شارل مورّا، وأستاذ دريو دي لا روشيل، والاثنان من أعمدة الفكر اليميني المتطرف الممالئ للنازية الهتلرية، خلال النصف الأول من القرن العشرين.

مهما يكن، ومهما كان تحليلنا لمواقف موريس بارّيس السياسية والإيديولوجية، ومهما كان شأن يمينيته، متطرفة كانت أم معتدلة، فإن هذا الكاتب لم يقدّس في نهاية الأمر سوى ذاته، بمعنى أنه كان واحداً من كبار كتاب «الأنا» في القرن العشرين. ولئن كان هذا الأمر يتجلّى من خلال تحليل دقيق لمواقفه وكتاباته. فإنه يتجلّى بكل وضوح من خلال ثلاثيته الأولى التي تظل أفضل ما كتبه طوال حياته الصاخبة، والثلاثية تحمل بالتحديد عنوان «عبادة الأنا» وتتألف من ثلاثة أجزاء: «تحت عين البرابرة» (1888) و«رجل حر» (1889) و«حديقة بيرينيس» (1891)

صراع مبكر ضد الألمان!

ولد موريس بارّيس عام 1862 في مقاطعة اللورين التي أمضى جزءاً من حياته اللاحقة وهو يطالب بعودتها إلى السيادة الفرنسية، بعد أن كان الألمان قد "استعادوها" قبل حين. وهو أمضى سنوات يفاعته في دراسة ابتدائية وثانوية في مدينة نانسي قبل أن ينتقل إلى باريس لدراسة الحقوق، لكنه هناك أولع بالأدب وأدب التاريخ والنقد على وجه الخصوص، وكرس سنوات لدراسة أعمال كبيري النقاد والمؤرخين الإنسيين في ذلك الحين هيبوليت تين وأرنست رينان. وهو بعد ذلك مباشرة اكتشف ذاته، وغاص في تحليل لأنه كان هو الذي قاده إلى كتابة ثلاثيته الأولى التي اعتبرت في حينه أشبه بـ«أنجيل للذات الفردية». غير أن فردية بارّيس لم تمنعه من أن يتحوّل وبسرعة إلى قومي متحمس. وهكذا ما إن بلغ السابعة والعشرين من عمره حتى بدأ يخوض معترك السياسة، فرشح نفسه لنيابة منطقة نانسي ونجح في ذلك بفضل برنامج قام على أساس المطالبة بإعادة الألزاس واللورين إلى فرنسا، كما على أساس التوقف عن انتزاع الأراضي الفرنسية، إضافة إلى اهتمامه بإبقاء المستعمرات الفرنسية خاضعة لملكية وطنه.

ولقد عبر بارّيس عن مواقفه السياسية المتطرفة تلك في ثلاثية جديدة حملت عنوان «رواية الطاقة القومية»، كتب أجزاءها بين 1897 و1902، وعبّر فيها عن تزاوج بين النزعة الفردية والحس القومي. وفي تلك الأثناء كان قد تعرّف إلى شارل مورّا ووضع معه البرنامج التأسيسي لـ«الحزب القومي» الذي ستتفرع عنه لاحقاً معظم التنظيمات والأحزاب اليمينية التي ساندت الاحتلال الألماني لفرنسا. غير أنه لا يمكن اتهام بارّيس بالوقوف إلى جانب مثل ذلك الاحتلال، لأن هذا الكاتب رحل عن عالمنا عام 1923.

المهم أن بارّيس كان، في سنواته الأخيرة قد اكتشف الكاثوليكية التي أضحت بالنسبة إليه جزءاً لا يتجزأ من نزعته القومية، وهذا ما عبّر عنه بشكل خاص في كتابه «التل الملهم» الذي سيعرف على نطاق واسع باسم «الجبل الملهم» وسوف يوحي للكثير من كتاب الدول المتخلفة بتشكيل تيارات وجمعيات أدبية تحمل اسمه وتحاول أن تسير فكرياً على هديه! في هذا الكتاب الذي وضعه في 1913 برهن بارّيس كيف أن النزعة القومية والنزعة الكاثوليكية متكاملتان.

إضافة إلى ذلك الاهتمام بالسياسة، لم يفت موريس أن يهتم بالأدب الخالص، ولا سيما بعد رحلات عدة قام بها إلى إيطاليا وإسبانيا واليونان، وبعض البلدان العربية (سوريا مثلاً) وهو عاد من تلك الرحلات بنصوص لم يغلب عليها أي طابع أيديولوجي فمكنته من أن تكون له مكانة حقيقية في عالم الأدب، ومن تلك النصوص: «حديقة على نهر العاصي» الذي كتبه عام 1922 وكان واحداً من آخر كتبه، إذا استثنينا مذكراته البالغ عدد أجزائها 14 جزءاً والتي نشرها ابنه بعد موته.

متعلقات