عندما تتخاطر الكائنات عبر "ذاكرتها الجماعية" "الحقل المورفوجيني" كما يشرحه المفكر البريطاني روبيرت شيلدريك روبيرت شيلدريك

 

بقلم/ الفاهم محمد ...

                      كاتب وباحث

 

ألفريد روبيرت شيلدريك Rupert Sheldrake 1942 أحد أبرز الأسماء الثقافية، المثيرة للجدل في الساحة الأوروبية بخاصة في بريطانيا. واحد من المفكرين الذين يستثمرون فلسفة فيزياء الكم، من أجل تقديم قراءة جديدة ومغايرة للكون والحياة. متخصص في مجال الكيمياء الحيوية وبيولوجيا الخلايا، إضافة إلى فيزيولوجيا النباتات. أثارت نظريته حول الذاكرة الجماعية للكائنات، وتطور قوانين الطبيعة، وملازمة الوعي للمادة في الطبيعة، سجالاً واسعاً في الأوساط العلمية، دفعت البعض إلى اعتبار أفكاره "هرطقة وعلماً زائفاً". كانت أقوى الانتقادات التي تلقاها شيلدريك عندما كتب آدم رذرفورد، عالم الوراثة في المجلة الشهيرة Nature أن كتب شيلدريك، ينبغي تجاهلها لأنها تتضمن نتائج تفتقر إلى الأساس التجريبي. يقول شيلدريك في رده على هذا الطرد من المجتمع العلمي: "لقد كان الأمر تماماً مثل الحرمان الكنسي البابوي. منذ تلك اللحظة فصاعداً، أصبحت شخصاً خطيراً جداً يجب معرفته من قبل العلماء".

 مع ذلك، للرجل خلفية علمية رصينة، فقد سبق أن درس في معاهد وجامعات مرموقة مثل جامعة هارفارد، واشتغل كعالم كيمياء حيوية في جامعة كامبريدج من عام 1967 إلى عام 1973. وكطبيب فيزيولوجيا النبات في المعهد الدولي لأبحاث المحاصيل، للمناطق الإستوائية شبه القاحلة في الهند حتى عام 1978.

مفكرون آخرون رأوا - عكس الموقف السابق - أن أفكاره تبشر بميلاد مرحلة جديدة، لفهم الكون وتفكّر الحياة. كل عناوين كتبه تشهد على أننا أمام باحث يفكر خارج الصندوق. "علم جديد للحياة" 1981. "حضور الماضي" 1988. "الكلاب التي تعرف متى يعود أصحابها إلى المنزل" 1999. "الوهم العلمي" 2012. "العلوم والممارسات الروحية" 2017.

نقد العلم التقليدي

  يقول روبيرت شيلدريك في حوار معه معرّفاً مشروعه الفكري: "مشروعي هو العثور على نموذج علمي للواقع، يوضح أن الأبعاد المختلفة للحياة مترابطة. وأننا نعيش على كوكب حيّ، في كون حيّ، وليس في كون ميكانيكي وخامل. إذا كان العلم يمكن أن يتوقف عن كونه صارماً وآلياً وعقائدياً - وليس غريباً! – فإن هذا من شأنه إحداث تغيير حاسم، مع دعم شعبي هائل".

جلّ أبحاث شيلدريك تسير ضد التيار المادي الصرف، مثل ذلك الذي يدافع عنه ريتشارد دوكينز. يتبنى روبيرت شيلدريك أفكاراً قد تبدو غريبة من قبل العلم التجريبي التقليدي، مثل فكرة وجود "ذاكرة متأصلة في الطبيعة" وأن النظم الطبيعية تتوارث هذه "الذاكرة الجماعية" في ما بينها. إضافة إلى أن جميع النظم الطبيعية، مثل النباتات والحشرات والطيور والحيوانات وحتى البشر، ترث ذاكرة جماعية، تتضمن كل المعلومات التي تحيل على نوعها، وتمارس نوعاً من التخاطر... لكن إذا كان العلم التقليدي يرى أن هذه المعلومات، ترتبط بالبرنامج الوراثي المسجل في الخلايا، فإن شيلدريك يذهب أبعد من ذلك، مؤكداً أن هذه "الذاكرة الجماعية" تعمل طبقاً لنظام خفيّ ولتأثيرات غير مرئية. 

ينتقد شيلدريك بشدة العلم التقليدي، الذي ينظر إلى الكائنات الحية والأنظمة الطبيعية، كما لو أنها مجرد آلات معقدة تتحكم فيها قوانين الفيزياء والكيمياء. لقد أبانت هذه المقاربة عن نجاعتها منذ ميلاد العلوم التجريبية خلال عصر النهضة، حيث قامت بالعديد من الاكتشافات المبهرة، ولكنها مع ذلك تظل مقاربة أرثوذوكسية، غير قادرة على فهم العديد من الظواهر التي تحدث في الطبيعة. فالحياة لا يمكن أن تفهم بطريقة ميكانيكية، لذلك وجب في نظره تجاوز هذا الباراديغم الميكانيكي، الذي يختزل جوهر الطبيعة في القوانين الثابتة. في نظر شيلدريك من الضروري اعتماد عوامل سببية جديدة، غير معروفة لحد الآن من قبل العلم التقليدي.    

يتبنى شيلدريك كذلك فكرة التطور الداروينية، لكنه يذهب بها إلى مجالات أخرى غير تلك التي ظهرت فيها. في نظره لا تقتصر ظاهرة التطور على الكائنات الحية وحدها، بل حتى المادة والكون وقوانين الطبيعة، برمتها تعرف هذه الظاهرة. لقد اعتقدت الفلسفة منذ المرحلة اليونانية، أن هناك واقعاً ثابتاً لا يتغير أبداً، يمثل حقيقة العالم. تجلت هذه الفكرة عند فيتاغوروس وعند أفلاطون، وقد تطورت في ما بعد لتصبح إحدى السمات الأساسية للعلم الحديث، وسواء عند نيوتن أو غاليليو اعتبرت قوانين الطبيعة، كحقائق أزلية وثابتة. وهكذا أصبحت الطبيعة آلة عملاقة، لا يتغير فيها أي شيء. ضد هذا التصور استوحى شيلدريك من برغسون فكرة التطور الخلاق، ليؤكد أن قوانين الطبيعة، بدورها تتطور بشكل إبداعي داخل الزمان.  

الحقل المورفوجيني

يعود لشيلدريك الفضل في نحت هذا المفهوم السجالي، الذي يزاوج بين العلم والميتافيزيقا، وهو مفهوم الرنين أو الحقل المورفوجيني، وهو يدل على وجود هذه الذاكرة المترسخة في الطبيعة، والتي تسمح بشكل غامض بنقل المعلومات من مكان إلى أخر.

كل الكائنات الحية لها ذاكرة جماعية، بل إن هذه الظاهرة تشمل حتى المواد الجامدة. وعلى الرغم من الانتقادات التي توجه إلى نظرية شيلدريك من ناحية افتقارها إلى التجارب المؤيدة، إلا أنه مع ذلك يقدم بعض الأدلة لتعزيز نظريته. الدليل الأول هو مثال البلورات كدليل تجريبي على صحة نظريته يقول: "أحد أفضل الأمثلة هو البلورات. عندما يخترع الكيميائيون جزيئاً جديداً، فإنهم يجدون صعوبة في جعله يتبلور، لكن بمجرد أن ينجح أحدهم، فإن الآخرين يفعلون ذلك بسهولة أكبر. كما لو تم إنشاء حقل، نموذج جديد عبر الزمكان، وكل ما عليك فعله هو التقاطه"، بطريقة أخرى

لو أن بلورة من الكريستال تبلورت بشكل معين في مكان ما، فإن هذا الشكل سيتم احتذاءه لاحقاً، من قبل بلورات أخرى في أماكن مختلفة من الكرة الأرضية.

هناك دليل آخر يتجلى في مثال فأر التجارب. فبمجرد أن يكتشف الجرذ في تجربة ما، طريقة للخروج من المتاهة، فإن بقية الفئران فوق الكرة الأرضية، يمكنها التغلب على هذه الصعوبة وإيجاد الحل. يقول شيلدريك: "إذا قمت بتلقين عمل جديد لفأر، في باريس على سبيل المثال، فإن فئران نيويورك أو لندن أو أستراليا، ستكون قادرة على تعلم هذه الحيلة الجديدة بسهولة أكبر" كيف تمكنت الفئران من فعل ذلك؟! الحل الذي يقترحه شيلدريك هو الرنين المورفوجيني.

هناك أدلة أخرى يقدمها شيلدريك على وجود فكرة التخاطر بين الكائنات، فالكلب مثلاً يقف عند الباب، بمجرد ما يقرر صاحبه العودة إلى المنزل، حتى وإن كان يبعد عنه كيلومترات.

وكدليل على التخاطر الموجود بين الكائنات الحية، يسوق شيلدريك مثال القرود، في إحدى الجزر اليابانية لاحظ العلماء تغير سلوك القردة، عندما أخذ أحدها يغسل البطاطا الحلوة في النهر قبل تناولها، فما كان من البقية إلا أن قامت بتقليده، وأصبح هذا الفعل سلوكاً راسخاً ومعتاداً لديها. لكن الغريب هو أن تقوم القرود في جزيرة أخرى، بتبني السلوك نفسه على الرغم من أنه لا توجد أية علاقة بينها وبين المجموعة الأولى. فكيف انتقلت إذن هذه المعلومة من جزيرة إلى أخرى؟ في نظر روبيرت شيلدريك، المعلومات تنتقل كنوع من الصدى أو الرنين والتخاطر، أو الذاكرة الغامضة، التي تنتقل ضمن نظام يتجاوز قوانين الطبيعة المعروفة.  

إن فكرة الذاكرة الجماعية هذه، طالما تم تجاهلها من قبل العلماء، ولم يولوها العناية الكافية. لهذا السبب يرى شيلدريك أن العلم يعيش حالياً أزمة، لأنه غير قادر على تفسير العديد من الظواهر مثل التخاطر والاستبصار وعلاقة المادة بالوعي.

قام روبير شيلدريك كذلك بتطوير فكرة الذاكرة الجماعية، عن الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، فالذاكرة عند هذا الأخير وكما هو معروف، لا تقتصر فقط على الدماغ البشري، بل لها علاقة بالزمن ككل، وهو ما يعمّمه شيلدريك عندما يعتبر أن الذاكرة، تظل محايثة للطبيعة والكون بشكل عام. نحن هنا نتحدث عن واقع غير مرئي يتجاوز الجانب المحسوس من الطبيعة، واقع له قوانين مختلفة، عن تلك التي درستها العلوم التجريبية إلى الآن.   

كانت الفلسفة اليونانية كما هو معروف ترى أنه وراء التغير الدائم لظواهر الطبيعة، توجد حقيقة ثابتة لا تتغير. من هنا تحدث فيتاغوراس مثلاً عن الأرقام والرياضيات، باعتبارها تمثل حقيقة الطبيعة. على خلفية هذه الأفكار سيظهر لاحقاً العلم الحديث، الذي سيدفع بهذه الفكرة إلى مداها الأقصى، وهي أن هدف العلم الوصول إلى استخراج هذه القوانين والتعبير عنها رياضياً. ضد هذه الفكرة يؤكد روبيرت شيلدريك أن قوانين الطبيعة بدورها تتغير مع تطور الكون. 

تغيير مفهوم العلم

صحيح أننا منذ الثورة الكوانطية، بدأنا ليس فقط في تغيير منظورنا إلى ما كنا نعرفه عن قوانين الطبيعة، بل تغيير مفهومنا عن العلم ذاته. وربما يكون العمل الذي يقوم به روبيرت شيلدريك يدخل في هذا السياق: تجاوز دوغمائية العلم التقليدي نحو آفاق أرحب. العديد من الباحثين والعلماء غير التقليديين يفتتحون اليوم بأعمالهم صفحات جديدة أمام الوعي البشري، مستثمرين في ذلك نتائج ثورة فيزياء الكم، لهذا السبب وإن كانت أفكار شيلدريك، قد نظر إليها كما لو أنها تشوّش على مبادئ العلم الراسخة - قيل في هذا الصدد إنه ضحى بالعلم لصالح اللاهوت والفلسفة - إلا أنها مع ذلك استقبلت بحفاوة كبيرة من قبل بعض العلماء، أغلبهم فيزيائيون مثل روني طوم صاحب نظرية الكوارث، والفيزيائي دافيد بوم، كما تم تأييدها من قبل المدافعين عن فلسفة العصر الجديد  New Age. وعلى أي حال يبدو أن أفكار شيلدريك تخلق نوعاً من الإثارة والتشويق في العلم الأكاديمي الذي غالباً ما يبدو بعيداً عن اهتمامات عامة الناس.

متعلقات