أمين الزاوي
كاتب و روائي و مفكر جزائري
كل المؤشرات الجيوسياسية والثقافية والاجتماعية تؤكد أننا ندخل عصراً جديداً في علاقتنا بالإسلام السياسي من حيث حجم حضوره وتعاطف العامة معه. أخيراً، بدأ العالم يتحرر من الخوف الذي بثه الإسلاميون في الكرة الأرضية قاطبة، وفي بلدان المشرق وشمال أفريقيا خصوصاً، وقد مثلت العشرية الدموية التي عاشتها الجزائر (1990-2000) نموذجاً واضحاً لتوحش الإسلام السياسي ووجهه الدموي الفاشي، والخروج من دائرة الخوف هو الخطوة الأولى للانتصار على الخصم.
عاش الإسلام السياسي "مجده الموهوم" منذ سقوط جدار برلين 1989 وانهيار الكتلة الشرقية، ولقد أوحت الرأسمالية الجشعة للإسلام السياسي بمستقبل "زاهر" وساعدته على الانتعاش والتمدد كالأخطبوط، ولكنها في كل ذلك كانت تريده أن يكون بغل الطاحونة يساعدها للوصول إلى أوروبا الشرقية والهيمنة على ثروات العالم، لقد أوهمته كثيراً، من خلال منشوراتها وقنواتها الإعلامية وجنّدت لذلك بعض منظريها ومثقفيها من العرب والمسلمين والغرب، أوهمته بأن خطابها هو الحل النهائي للبشرية، هو الخلاص الذي لا خلاص بعده، فلا شرقية شيوعية ولا غربية رأسمالية، وكانت الثورة الخمينية بما حملته من صور دعائية، بداية لعبة الرأسمالية للزحف على الاتحاد السوفياتي المفكك.
وكانت أفغانستان أوراق التحالف الأولى ما بين الإسلام السياسي والرأسمالية المتوحشة، فمن كابول، بدأ الاستثمار في الإسلام السياسي لتخويف العالم، تحضيراً لترتيب الأمور الدولية وتقاسم النفوذ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين.
تمتد الفترة الذهبية للإسلام السياسي عربياً ومغاربياً ودولياً ما بين سقوط جدار برلين عام 1989 وحتى سقوط عمر البشير 2019.
يمكن تلمّس مؤشرات بداية أفول الإسلام السياسي من خلال:
أولاً، الصورة الجديدة للسعودية، المؤشرات العالمية الأولى لبداية نهاية الإسلام السياسي ظهرت في المملكة، باعتبار أن هذا البلد يختصر، في المخيال العربي والإسلامي، صورة الإسلام من حيث كون هذه الأرض مكان وجود الرموز الإسلامية المقدسة الكبرى ومهبط الوحي على نبي الإسلام، فكان انفتاح المملكة الجديد على جملة من الإصلاحات الاجتماعية والثقافية والحريات الفردية. وقد تمثلت الخطوة الأولى في السماح للمرأة بقيادة السيارة. قد يبدو هذا الأمر بسيطاً وربما مضحكاً، ولكن رمزيته قوية جداً لمن يعرف المجتمع السعودي، ثم السماح للمرأة بالسفر من دون ولي، وتأتي رمزية قوة هذه القرارات لأنها تمس المرأة بالأساس، وهي الموضوع الحساس بالنسبة إلى الإسلاميين، فهم يعتقدون بأن جميع مشكلات الكرة الأرضية سببها حرية المرأة واستقلاليتها. لذا فإن هذه الإصلاحات التي منحت للمرأة هذا الهامش من الحرية في السعودية هي الخطوة التي كانت الزوبعة الأولى التي عكّرت صفو قادة الإسلام السياسي ودعاته ومنظريه.
كما أنه، وفي السعودية أيضاً، وعلى المستوى الثقافي والفني، فإن قرار فتح قاعات العروض السينمائية أمام الجمهور بنسائه ورجاله، وكذلك السماح بتنظيم حفلات فنية موسيقية عالية لأكبر نجوم الفن العربي والمغاربي والعالمي، وحلّ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تمثل مؤشراً حقيقياً إلى بداية أفول التشدد وعودة إسلام التسامح والعيش المشترك، إسلام الدفاع عن الحياة الجميلة. وقد تركت هذه المبادرات كثيراً من الارتياح في أوساط النخب الثقافية والإبداعية التنويرية. صحيح أن ما تحقق ليس كافياً لكنها الخطوة الأولى التي تفتح شهية انتظار مشروع مدينة الخيال 2030 والتي ستعطي من دون شك وجهاً اجتماعياً وثقافياً للمجتمع السعودي.
كما أن طرق مواجهة جائحة كورونا في السعودية أساساً، كانت مؤشراً آخر للانتهاء من المزاودات على السعودية في موضوع الإسلام السياسي، فاتخاذ قرار تعليق الحج لهذه السنة ومنع العمرة، وإلغاء الصلاة في الحرمين، كل ذلك كان عبارة عن رسالة جديدة لمواجهة الإسلام السياسي الذي كان لا يمكنه تصور مثل هذه القرارات التي تشكل لحظة وعي سياسية واجتماعية ومؤسساتية.
ثاني مؤشرات انهيار الإسلام السياسي ما يجري في السودان، هذا البلد الكبير والوازن أفريقياً وعربياً، الذي عانى من نظام سياسي فاسد، حكمته طبقة سياسية فاسدة بيد من حديد باسم تطبيق الشريعة ففتَّتَته. فمنذ جاء عمر البشير إلى الحكم عام 1989 من القرن الماضي وبقي في السلطة حتى الإطاحة به في أبريل (نيسان) 2019، عرف هذا البلد الذي بحجم قارة، تنوعاً عرقياً وثقافياً ولغوياً وخيرات مادية خارقة. لقد تسلم عمر البشير السودان بلداً واحداً وغادره بعد الإطاحة به وهو مقسم إلى بلدين وأكثر، فجنوب السودان انفصل عن السودان الأم وشكل بلداً معترفاً به رسمياً ودولياً، وأصبحت بعض الأقاليم الأخرى على وشك الانفصال والتفكك، تعيش في حروب خلف مئات الآلاف من الضحايا، وهدر طاقات مادية وخيرات كبيرة جراء هذه الصراعات العمياء.
في هذا البلد الأفريقي الكبير الذي حكمه الإسلام السياسي لنصف قرن تقريباً، جاء أخيراً الإعلان الدستوري الجديد للسودان كصفعة في وجه هذا التجربة البئيسة الثيوقراطية، وقد تضمنت الوثيقة الدستورية أفكاراً أساسية تؤشر إلى بداية نهاية الإسلام السياسي في هذا البلد ومن بين هذه الأفكار: تبني العلمانية كطريق مثلى لحل خلافات التنوع في السودان ولتحصين الحياة المشتركة بين مكوّناته وحماية وحدة التراب الوطني وإلغاء حكم إعدام المرتد عن الإسلام ومنع ختان الفتيات وإلغاء اعتبار اللغة العربية لغة رسمية. كل هذه الأفكار تؤكد الباب المسدود الذي وصل إليه الإسلام السياسي والبحث عن طريق آخر.
ثالث هذه المؤشرات، ما يحدث في تونس، هذا البلد الصغير جغرافياً إلا أنه الترمومتر الحقيقي لاستشراف المستقبل السياسي لبلدان شمال أفريقيا والعالم العربي. فمن تونس انطلقت شرارة الربيع العربي، ففي تونس وعلى الرغم من هيمنة حركة النهضة ذات التوجه الإخواني الإسلامي (تيار الإخوان المسلمين)، إلا أن قراراً يعدّ مؤشراً حقيقياً ورمزياً كبيراً إلى نهاية "تعاطف العامة" مع الإسلام السياسي، يتمثل في تصويت أعضاء البرلمان بالغالبية على منع استعمال مكبرات الصوت في المساجد في رفع الأذان.
أما لبنان الذي أصبح مزرعة سياسية للأسر الطائفية، تتقاسم السلطة منذ الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي، فحين نسمع اليوم الرئيس ميشال عون وهو أحد أطراف هذه الطائفية التي لا تسمح للبلد بأي تقدم أو تحديث سياسي، نسمعه يقول إن العلمانية هي وحدها السبيل للإجابة عن المأزق الطائفي الأسري الكسيح الذي يحكم لبنان من دون أفق. هذا التصريح يؤشر إلى نهاية حقبة من الحكم الطائفي باسم الدين، وفي الوقت ذاته مأزق لـ"حزب الله" بوصفه القوة السياسية للإسلام السياسي في لبنان.
وإذا كانت الحركة التحديثية التي تعرفها السعودية والسودان ولبنان وتونس وغيرها من الدول في باب السياسة ومؤسساتها والمتمثلة في البحث الدؤوب عن مسلك للتخلص من الإسلام السياسي كل بطريقته الخاصة، فإننا نتأسف والجزائر مقبلة على استفتاء على تعديل دستوري جديد، لا تزال تتعامل مع الدين بمنطق الشعبوية التي لن تنفع البلد ولن تكون إلا طريقاً لمأزق سياسي آخر، وسيأتي يوم قريب وسيشهد الجزائريون تعديلاً دستورياً آخر، وسيكون هذه المرة في تثبيت فصل الدين عن الدولة حماية للبلد من التفكك ومن الفوضى وعودة سلطة الدولة باسم القانون المدني.