مهرجان البندقية: لماذا خطفت الصين "الأسد الذهبي"؟

 

 إيطاليا ربحت الرهان، ومهرجان البندقية السينمائي يمتلك كل الأسباب والمبررات للشعور بالفخر والاعتزاز؛ لكونه تحدى جائحة كورونا ونظم تظاهرة سينمائية كبيرة من دون أي مشاكل، وبالتزام كامل بالإجراءات الوقائية ومعايير السلامة التي تمنع انتقال الفيروس الشرير وانتشاره.

صحيح، كان عدد المشاركين في الدورة الـ77 التي انتهت أمس، أقل بقليل من كل عام، كما أنه ألغيت جميع النشاطات التي تتعارض مع مبدأ التباعد الاجتماعي، ما خفف من طابع الاحتفالية فاقتصرت الـ"موسترا" على عرض الأفلام، لكن رغم ذلك يبقى أن تعنت المدير ألبرتو باربيرا وإصراره جاءا بنتيجة مُرضية على جميع المستويات، وهذا بشهادة الكثير من الصحافيين والنقاد. أقله كانت مناسبة لأهل الفن السابع لعرض جديدهم في الصالات، وكانت فرصة للحياة السينمائية لتعود إلى شيء من دورانها الطبيعي، بعد ستة أشهر من الاعتكاف والركود.

إذاً، بعد 11 يوماً من المشاهدة في جزيرة الليدو الفينيسي، وزعت لجنة التحكيم برئاسة الممثلة الأسترالية كيت بلانشيت الجوائز على الفائزين. "نومادلاند" لكلويه زاو جائزة "الأسد الذهبي". هذا العام الثاني على التوالي الذي يفوز فيه فيلم أميركي بالجائزة الكبرى، إذ كانت أسندت إلى "الجوكر" لتود فيليبس العام الماضي، كما أنها المرة الثانية على التوالي تكلف سيدة برئاسة لجنة التحكيم (الأرجنتينية لوكريسيا مارتل ترأستها العام الماضي). في المقابل، هي المرة الأولى منذ عشر سنوات، أي منذ تاريخ تسلم الأميركية صوفيا كوبولا "الأسد" عن "في مكان ما"، تذهب فيها "الأسد الذهبي" إلى مخرجة، وليس لمخرج. وللمفارقة، فإن كلويه زاو صينية الولادة وإن اشتغلت في الولايات المتحدة، وهذا يعني أن المهرجان لم يتحد الجائحة فحسب، بل كرم صينية كذلك!

الصينية كلويه زاو

زاو المتحدرة من بيجينغ، والتي لم تبلغ الأربعين بعد، أنجزت أفلاماً أميركية. كانت البداية مع "أغاني علمني أشقائي" في عام 2015، الذي عرض في مهرجان ساندانس. الفيلم يسكتشف العلاقة بين أخ وشقيقته الصغرى. ثاني تجربتها الإخراجية "المتسابق" (2017)، استقبلها النقاد بحفاوة، وهي من نوع "الوسترن" صورته زاو في أراضي جنوب داكوتا الشاسعة، وشهد عرضه الأول في مهرجان كان (قسم "أسبوعا المخرجين"). وها هي تعود مع فيلمها الروائي الطويل الثالث، "نومادلاند"، متغلبةً على الأفلام الـ17 التي عرضت في المسابقة الرسمية للمهرجان، ومن بينها أعمال لسينمائيين كبار مثل أندره كونتشالوفسكي وجيانفرنكو روزي وأموس غيتاي. كما أنها واحدة من المخرجات الثماني اللاتي اخترن في المسابقة (رغم أن مهرجان البندقية لطالما رفض الخضوع لمنطق الكوتا النسائية)، وفيلمها واحد من الفيلمين الأميركيين الوحيدين اللذين شقا طريقهما إلى المسابقة في دورة غاب فيها الأميركيون.

"نومادلاند" الذي لم تكتفِ زاو بإخراجه، بل تولت كذلك كتابته وإنتاجه وتوليفه، هو من بطولة الممثلة الكبيرة فرانسز ماكدورماند (الفائزة بـأوسكارين)، حيث تضطلع بدور امرأة محطمة تتخلى عن كل شيء وتختار الطريق مسرحاً جديداً لحياتها. بعد دورها في "ثلاث يافطات خارج إيبينغ، ميزوري" لمارتن ماكدونا، الذي هو الآخر كان عرض في البندقية قبل ثلاث سنوات، تواصل ماكدورماند التنقيب في هوامش أميركا، أو الحيز المتروك لمصيره، ذاك الذي لا تمثيل كبيراً له على الشاشة. ويمكن القول إن ماكدورماند بتمثيلها القوي تخترق الشاشة كالعادة، وتقدم أداءً يتعذر نسيانه، حاملةً العمل بأكمله على كتفيها. فهل ترشح لأوسكار ثالثة في موسم الجوائز القادم؟ 

صحيح، إن زاو ألفت القصة، لكنها استوحتها من أصل أدبي معروف هو كتاب "نومادلاند: البقاء على قيد الحياة في أميركا القرن الحادي والعشرين" (2017)، وهو عمل غير روائي لجسيكا برودر يوثق ظاهرة العمال الأميركيين الذين تخطوا عمراً معيناً ويجوبون البلاد طولاً وعرضاً كرحالة بحثاً عن وظيفة، ومعظم هؤلاء أصبح في هذه الحالة بعد الركود الاقتصادي في عام 2008. انطلاقاً من هذا الكتاب البحثي استوحت زاو شخصية فرن (ماكدورماند) التي اضطرت لحزم أمتعتها بعد إفلاس الشركة التي كانت تعمل فيها وركوب شاحنتها والذهاب إلى اكتشاف "الحياة الأخرى"، تلك الحياة الموازية التي تتبلور خارج الأطر الاجتماعية التقليدية الجامدة.

"نومادلاند" فيلم طريق ينطوي على مناظر طبيعية بديعة للغرب الأميركي، نوع سينمائي برع فيه الأميركيون نظراً لجغرافيا بلادهم وطبيعتها اللتين تسمحان لهذا الصنف من المغامرات، لكن الأمر المغاير هنا هو الاستعانة بعدد من الرحالة الحقيقيين مثل ليندا ماي وسوانكي وبول ولز الذين سيكونون رفاق درب فرن في رحلتها الاستكشافية لعمق غرب أميركا. لهذا السبب يقوم الفيلم على الدمج بين الروائي والوثائقي، ويمكن تصنيفه ضمن الـ"دوكو دراما" أو الدراما الوثائقية، فهو يلغي الحدود الصريحة بين الواقع والخيال. قد لا يكون عملاً مبهجاً، ولكنه متأصل في واقع أليم، ويحمل بعض الميلانكوليا فيقحمنا في مجتمع قاطني الكارافانات، وهم كثر في أميركا. هؤلاء الأميركيون الذين أخذوا من وسيلة النقل مكان إقامة لهم. هؤلاء الرحل الذين ينظرإليهم نظرة سلبية، يحرص الفيلم على تصويرهم من زاوية إنسانية. يرينا التضامن بين أفراد هذا المجتمع. فكُثر منهم تم تسريحهم من عملهم، وسحقت الرأسمالية أحلامهم فاضطروا العيش "على الطريق".

مكسيكي وياباني

جائزة لجنة التحكيم الكبرى ذهبت إلى "النظام الجديد" للمخرج المكسيكي ميشال فرنكو الذي قدم ثريللر "ديستوبي". عمل وُصف بالجريء والصادم؛ لكونه يوجه نقداً لاذعاً للظلم الاجتماعي وعلاقته بالعنف. أما جائزة "الدب الفضي" لأفضل مخرج فكانت من نصيب كيوشي كوروساوا وفيلمه "زوجة جاسوس". هذا أول فيلم للمخرج الياباني القدير يتموضع في حقبة ماضية، ويروي فيه القصة وفق المدرسة السردية القديمة. دراما تشويقية قد تُرضي توقعات هواة النوع. وفي مقابلة عبر "زوم"، قال المخرج متأسفاً أن هذه أول مرة لم يستطع السفر إلى مهرجان كبير ليعرض فيه فيلمه.

 

جائزة التمثيل في قسم أفضل أداء نسائي، تسلمتها البريطانية فانيسا كربي عن دورها في "أجزاء إمرأة" للمجري كورنل موندروكتشو، وهو أداء أشاد به النقاد، علماً بأن بلانشيت اعترفت بأنه كان اختياراً صعباً للغاية، نظراً لوجود عدد من الأداءات العظيمة. الممثلة المعروفة عن دورها في مسلسل "ذا كراون" تجسد هنا أول دور بطولة مطلقة في فيلم سينمائي، لاعبةً دور سيدة تنقلب حياتها رأساً على عقب بعد تعرضها لمشكلة صحية وهي تضع مولودها. كربي أهدت جائزتها إلى "كل الأمهات اللاتي خسرن أولادهن ولم تُروَ قصصهن". في المقابل، فإن جائزة التمثيل لأفضل أداء رجالي خطفها الممثل الإيطالي القدير بيارفرنتشسيكو فافينو عن دوره في "آبانا"، حيث نراه موظفاً عالي الرتبة يستهدفه عمل إرهابي خلال "سنوات الرصاص" (بين نهاية الستينيات وبداية الثمانينيات)، والفيلم مستوحى من تجربة حقيقية. وكان للمراهقة الإيرانية روح الله زماني نصيب من الجوائز، من خلال فوزها بتمثال مارتشيللو ماستروياني لأفضل موهبة صاعدة عن دورها في "أولاد الشمس" لمجيد مجيدي.

المخرج الهندي شايتانيا تمهان فاز بجائزة السيناريو عن "المريد"، دراما ميوزيكالية كانت قد فازت أيضاً بجائزة "فيبريسي" التي يمنحها النقاد. ولحسن الحظ فإن المخرج الروسي الكبير أندره كونتشالوفسكي لم يغادر خالي الوفاض، فرد له الاعتبار بـ"جائزة لجنة التحكيم الخاصة" عن فيلمه الأحدث "رفاقي الأعزاء"، الذي يدور خلال الحقبة السوفياتية. بعد تحفته "جنة" التي عرضت في البندقية قبل ثلاثة أعوام، يعود صاحب "سيبيرياد" إلى إحدى الصفحات السود من التاريخ الأوروبي متناولاً مجزرة نوفوتشركاسك في عام 1962 التي أسفرت عن مقتل 26 متظاهراً، وجرح 87 آخرين على يد قوات الجيش السوفياتي.

أخيراً، جاءت جوائز قسم "أوريزونتي" (آفاق) على النحو الآتي: "أرض اليباب" لأحمد بهرامي (أفضل فيلم)، و"خينوس بان" للاف دياز (أفضل مخرج)، و"اسمعوا" لأنا روخا دو سوسا (جائزة لجنة التحكيم - نال أيضاً جائزة "أسد المستقبل" لأول فيلم)، وخنساء بطمة (أفضل ممثلة عن دورها في "زنكا كونتاكت")، ويحيى المهايني (أفضل ممثل عن دوره في "الرجل الذي باع ظهره")، و"المفترسون" لبييترو كاستيلليتو (أفضل سيناريو)، و"دخول ميلاغروس" لماريانا سافرون (أفضل فيلم قصير).

متعلقات