المصري عيد عبد الحليم يكتب قصائده ب"حبر أبيض"

 

محمد السيد إسماعيل
ما الذي يدفع الشاعر المصري عيد عبد الحليم إلى تسمية ديوانه الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب "حبر أبيض". إن الحبر الأبيض هو أداة الكتابة التي تخص صاحبها، ولا يريد أن يطلع عليها أحد، أو لنقل الكتابة المكتفية بذاتها. وربما توحي "الكتابة البيضاء" بالعبثية وانعدام الجدوى مثلها مثل "الحرث في الماء"، على العكس مما كانت تعنيه جماعة "أصوات" الشعرية، حين أطلقت على مجلتها الطليعية في سبعينيات القرن الماضي اسم "الكتابة السوداء".

لكن عيد عبد الحليم يربطها بالأمنيات التي لا يريد أن يعرفها أحد حين يقول، "شجر الحديقة/ لم يرو منذ الصيف الماضي/ والأغاني المعلقة في الهواء/ لم تجد فرصة للوصول إلى قلبي/ كثير من الأمنيات/ أكتبها بحبر أبيض/ حتى لايقرأها غيري/ وحبيبتي بفستانها الأرجواني/ صعدت إلى جبل ولم تنزل إلى الأرض ثانية". ومن الواضح أن هذه الأمنيات السرية ترجع إلى تيمة الفقد، التي تعبر عنها السطور السابقة، فشجر الحديقة لم يرو منذ عام، والأغاني المعلقة لم تصل إلى القلب، والحبيبة صعدت إلى الجبل ولم تنزل إلى الأرض. ووسط هذه الإحباطات يصبح من الطبيعي أن تكون الأمنيات سرية ينأى بها الشاعر عن الواقع الذي يسعى لمسخها.

الأسود والأبيض

ينقسم الديوان إلى ثلاثة كتب تحمل العناوين الآتية، "صحراء لا تشبهني"، و"حنين مفقود"، و"كما يليق بعابر"، وهي عناوين دالة على تيمة الفقد التي أشرتُ إليها وإحساس الشاعر بكونه عابراً في صحراء لا تشبهه. ولتأكيد هذه الدلالة يقوم عيد عبد الحليم بتوظيف اللونين "الأسود والأبيض"، وهما كما يقول، "لونان عشقتهما منذ الطفولة/ كفيلسوف جريح/ أقعدته التراجيديا/ على حافة صخرة/ في آخر العالم".

وهكذا يتجاوب المكان بصحراويته، والزمان بطابعه التراجيدي المحاصران بين الأسود والأبيض في تأكيد دلالة الاغتراب، الذي يعيشه الشاعر كفيلسوف جريح تدفعه إلى الخلاص من كل شيء. هذا ما نلمسه في قصيدة "كأن شيئاً لم يحدث"، بعنوانها الدال حين يضع كل ما يهمه فى حقيبته، ثم يضعها في منتصف الشارع ويمضي. وهذه القصيدة تقوم على النهاية غير المتوقعة، ضاربة أفق توقع القارىء حين يبدو الشاعر حريصاً على أشيائه الخاصة، الجريدة، وديوانه المخطوط، وأقلامه، وصورة البنت الوحيدة التي أحبها. وفي النهاية نكتشف أنه يجمع كل هذا للخلاص منه، وهو ما يجعل الحياة كلها تبدو مثل "هروب متكرر"، وهو عنوان إحدى القصائد، تتحول فيه الأشياء الواقعية إلى وجود مجازي يجمل رائحة الألم، يقول، "الأشجار التي زرعتُها في الحدائق/ التي نمت على أعشابها/ في سنوات الطفولة/ تحولت في الشعر إلى مجاز يحمل رائحة الألم".

وتعد حالة التحول من الشيء إلى نقيضه سمة دائمة في الديوان، يحاول الشاعر رصدها من خلال تأمل ماضيه القريب. ففي قصيدة "المدينة الجامعية غرفة 212" يتحدث عن ثلاثة ريفيين جاءوا إلى المدينة بسنابل في حقائبهم، لكنهم عندما عادوا إلى قراهم "لم يجدوا في الحقول التي تربوا على هوائها/ أي وجود لسنبلة".

التماهي مع المكان

تستمر آلية التحولات بصورة أكثر فداحة في قصيدة "غرافيتي"، حين يتحدث عن الرعاة الذين هجروا العشب واستوطنوا الصحراء، وعن الجنود الذين تركوا حراسة الأهل للذئاب، وهي مفارقات تجعل الشاعر متماهياً مع المكان الذي يتخذ صفاته ذاتها، حين يقول، "كل شيء في الغرفة يشبهني تماماً/ الغرفة الموجودة في نقطة ما/ ما بين الأسود والأبيض". وتستمر تيمة الزوال والفقد في قصيدة "ظهيرة غائبة" التي تحكي عن صانع "الشَبَك" وأبنائه الثلاثة، الذين كان ثالثهم صديق الشاعر، "أما ثالث الأبناء/ صديقي/ الذي علمني كيف أهادن الموج/ إذا ما ألقيتُ سِنارتي/ كان يأتي بالطُعم من الأراضي الزراعية المجاورة". لكن ذلك كله يمضي ونصبح ليس فقط أمام أطلال للمكان، بل أطلال للزمن حين يكثر "الذين يمرون في الشوارع دون أن يعرفوا أين ذهب الصياد وأبناؤه الثلاثة". وتمتاز هذه القصيدة ببنيتها السردية التي تقوم على تقنية الاسترجاع والحبكة القصصية، التى تبدأ بالتعرف على الشخصيات وصولاً إلى العقدة ثم النهاية، التي كانت استمراراً للأزمة وليست حلاً لها. وأحياناً ما تقوم الحبكة على تقديم الشخصية تقديماً مباشراً، وهنا يتوارى دور الشاعر، كما في قصيدة "مثل عصفور... مثل ضوء"، "المهنة خراط/ أزِنُ الحديد بمقدار/ وأهيىء كل قطعة/ لتصبح تشكيلاً جمالياً مثل عصفور/ مثل ضوء/ مثل سحابة".

حديد ونار

فكرة التشكيل جامعة بين الخراط والشاعر، الذي يعالج لغة أشبه بالحديد من حيث صلابتها، ويزداد هذا التقارب حين يدخل عنصر النار الذي نستطيع من خلاله تأويل الغرام ورسائل العشق التى لم تكتمل، "أؤول الغرام/ بالنار المشتعلة/ أهمس ليمامة طارت، الليل موعدنا/ وغرام الأسلاف يجمعنا/ سبحان من خلق الهوى وأبقى تحت أشجارنا رسائل عشق لم تكتمل".

والأمر نفسه نجده في قصيدة عن حطاب كان الغناء رفيقه دائماً. على أن عيد عبد الحليم يتجاوز هذا مستدعياً شخصيات مثل الشاعر علي قنديل، الذي رحل في مقتبل شبابه، ويصفه بـ"المنخطف"، مختتماً القصيدة بالتساؤل، "ما الذي يجعل الشاعر يموت فجأة على قارعة الطريق/ هي صرخة واحدة وتلويحة وداع/ تكفي لمن يمرون في شوارع مغلقة بالنسيان".

إن عيد عبد الحليم يستعيد من خلال علي قنديل جيلاً شعرياً شهد تحولات جذرية في كل شيء، وحلم بالثورة دون جدوى، "الشعراء لم يعد لديهم رصيد من الغناء/ فقد تسربت الموسيقى (عليها اللعنة) إلى رنات الموبايل/ وبقي شباب السبعينيات على الرصيف/ يعاكسون البنات تارة/ وأخرى يمسكون شارة للجيل الثوري/ على باب الجامعة". ولا شك أن الفنان الراحل عبد العزيز مكيوي، يعد تمثيلاً آخر لهذا الجيل، فهو اليساري الذي وزع منشورات الحرية في فيلم "القاهرة 30"، المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ، تاركاً "الحب يصارع النسيان في الشوارع الجانبية".

متعلقات