نشوة محمد
حكايات متناثرة وصور مبعثرة ومراوغة، جمعها الكاتب المصري أحمد زغلول الشيطي في روايته "صخرة هليوبوليس" (دار العين- القاهرة)، يلتقط عبرها أولئك المعلقين دوماً على الحافة، الصغار حتى أنّ لا أبصار تدركهم، ليمنحهم فضاءً بديلاً أكثر رحابة ويجعل منهم أبطالاً ينفث فيهم حياة جديدة، فيحتفي بالهامش ويضعه في بؤرة الضوء ويعيد للموتى حقاً أصيلاً في الحياة.
من هوليوبوليس؛ "أون"، أو مدينة الشمس في التاريخ القديم، و"مصر الجديدة" في الواقع الحديث، تبدأ رحلة السرد العكسي التي يسلكها الكاتب على متن تقنيات التذكر والاسترجاع، عائداً إلى مسقط رأسه في مدينة دمياط، فيقطع "يوسف"؛ البطل المجهول حتى مرحلة بعيدة من السرد، الطريق ليطمئن على قبر أمه، ويستعيد الماضي فيعيد إنتاج طفولته التي وسمت باليتم بعد مغادرة الأب باكراً، ويجسد صور المعاناة والتشرد لطفل قضى طفولته في التنقل بين أصحاب الورش والدكاكين والحرفيين. يشاهد أمه تمتهن مهنة الأب الراحل في بيع الملابس وترشف من المعاناة ما يشبع نهم الألم. يشهد التحول من الزراعة إلى صناعة الأثاث في مجتمع بات يلهث خلف الثراء السريع لتكون بيئته المحلية الفضاء الأكثر حضوراً طوال رحلة السرد التي غلبت عليها سمات التعدد والمزاوجة في الفضاءات الزمنية والمكانية وحتى في طريقة وأسلوب السرد.
"هل كان أبي يرغب في تجاوز وضعه كبائع متجول؟ هل كان يعلم أن رحيله سيترك ثقباً يتوق إلى الامتلاء، وأن رائحة بيت الأب غير رائحة بيت اليتامى، وأنه سيوجد من يرغب في التبرع لسد الثقب بنفسه" (الرواية صـ 27).
تداخل الأصوات
لم يعتمد الكاتب نمطاً مألوفاً في تتابع الزمن، وإنما سلك نسقاً غير منتظم، بدأه بالنزوح من الراهن إلى الماضي ثم راح يتجول بين القديم والأقدم جيئة وذهاباً. وبالحيلة ذاتها زاوج بين صوت الراوي العليم بشخوصه، وسرده الذاتي كشخصية محورية تمسك بوحدة النسيج وتربط بين حكايات الشخوص المتناثرة التي تفوح جميعها برائحة البؤس والألم وتشي بالتباس الواقع وبقدر عظيم من الفقر والقهر والتفاوت الطبقي.
لم تكن المسافات التي تفصل بين قصر البارون إمبان في هليوبوليس، ومدينة دمياط إلا نافذة شرعها الكاتب ليطل عبرها على مسافات شاسعة أخرى تفصل بين طبقة من المرفهين وأخرى من المناضلين؛ لأجل البقاء على قيد العيش. وفي هذه المسافات يمضي السرد متخماً بمعاناة شخوص لا تجمعهم صلة، وحدها تيمة القهر تفعل.
اعتمد الشيطي بناءً روائياً مغايراً، لا تتسلسل بل لا تتواتر فيه الأحداث، وإنما أضاء صوراً متفرقة ومشاهد مبعثرة وغزل منها نسيجه الذي تخللته ستة كتب، سارت في اتجاه مواز للسرد عبر خط أفقي لتربط بين الرحلة الحقيقية إلى قبر الأم، ورحلة الذاكرة إلى دمياط ما بعد ثورة يوليو (تموز) 1952 وصولاً إلى حقبة السبعينيات. ورصد خلالها - بنعومة شديدة - تحولات اقتصادية واجتماعية خطيرة شهدها المجتمع، ناقلاً تجربة محلية شديدة الخصوصية في صناعة الأثاث، ومدللاً عبر هذه التجربة على توحش الرأسمالية، وما خلفته من تشويش واضطراب اجتماعي، ومعاناة للحلقات الأضعف في سلسلة رأس المال. "صورني سعيد على أنني العقبة أمام الثراء السريع المحتمل في موسم لا يدرك أحد مداه. راحت الأراضي الزراعية تتحول إلى شوارع ومحال ومعارض، وانتشرت موضة الموت السريع، والحب السريع، والجنس السريع والاستهلاك الجارف غير المسبوق" صـ90.